الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} (14)

الثالثة- قوله تعالى : " لتستووا على ظهوره " يعني به الإبل خاصة بدليل ما ذكرنا . ولأن الفلك إنما تركب بطونها ، ولكنه ذكرهما جميعا في أول الآية وعطف أخرها على أحدهما . ويحتمل أن يجعل ظاهرها باطنها ؛ لأن الماء غمره وستره وباطنها ظاهرا ؛ لأنه انكشف للظاهرين وظهر للمبصرين .

الرابعة- قوله تعالى : " ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه " أي ركبتم عليه وذكر النعمة هو الحمد لله على تسخير ذلك لنا في البر والبحر . " وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " " وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا " أي ذلل لنا هذا المركب . وفي قراءة علي بن أبي طالب " سبحان من سخر لنا هذا " . " وما كنا له مقرنين " أي مطيقين ، في قول ابن عباس والكلبي . وقال الأخفش وأبو عبيدة : " مقرنين " ضابطين . وقيل : مماثلين في الأيد والقوة ، من قولهم : هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة . ويقال : فلان مقرن لفلان أي ضابط له . وأقرنت كذا أي أطقته . وأقرن له أي أطاقه وقوي عليه ، كأنه صار له قرنا . قال الله تعالى : " وما كنا له مقرنين " أي مطيقين . وأنشد قطرب قول عمرو بن معديكرب :

لقد علم القبائلُ ما عُقَيْلٌ *** لنا في النائبات بمقرنينا

وقال آخر :

رَكِبْتُم صعْبَتَيْ أشَرًا وحَيْفًا *** ولستم للصِّعابِ بمقرنينا

والمقرن أيضا : الذي غلبته ضيعته ، يكون له إبل أو غنم ولا معين له عليها ، أو يكون يسقي إبله ولا ذائد له يذودها . قال ابن السكيت : وفي أصله قولان : أحدهما : أنه مأخوذ من الإقران ، يقال : أقرن يقرن إقرانا إذا أطاق . وأقرنت كذا إذا أطقته وحكمته ، كأنه جعله في قرن - وهو الحبل - فأوثقه به وشده . والثاني : أنه مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في السير ، يقال : قرنت كذا بكذا إذا ربطته به وجعلته قرينه .

الخامسة- علمنا الله سبحانه ما نقول إذا ركبنا الدواب ، وعرفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن ، وهي قوله تعالى : " وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم " {[13592]} [ هود : 41 ] فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت{[13593]} أو طاح من ظهرها فهلك{[13594]} . وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا . فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور واتصالا بأسباب من أسباب التلف أمر ألا ينسى عند اتصال به يومه ، وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله عز وجل غير منفلت من قضائه . ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعدا للقاء الله بإصلاحه من نفسه . والحذر من أن يكون وركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه . حكى سليمان بن يسار أن قوما في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا : " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " وكان فيهم رجل على ناقة له رازم - وهي التي لا تتحرك هزالا{[13595]} ، الرازم من الإبل : الثابت على الأرض لا يقوم من الهزال . أو قد رزمت الناقة ترزِم وترزم رُزُومًا ورِزَامًا : قامت من الإعياء والهزال فلم تتحرك ، فهي رازم . قاله الجوهري في الصحاح . فقال : أما أنا فإني لهذه لمقرن ، قال : فقَمَصَت به فدقت عنقه . وروي أن أعرابيا ركب قعودا له وقال إني لمقرن له فركضت به القعود{[13596]} حتى صرعته فاندقت عنقه . ذكر الأول الماوردي والثاني ابن العربي . قال : وما ينبغي لعبد أن يدع قول هذا وليس بواجب ذكره باللسان ، فيقول متى ركب وخاصة في السفر إذا تذكر : " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له بمقرنين . وإنا إلى ربنا لمنقلبون " اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل والمال ، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، والجور بعد الكور ، وسوء المنظر في الأهل والمال ، يعني ب " الجور بعد الكور " تشتت أمر الرجل بعد اجتماعه . وقال عمرو بن دينار : ركبت مع أبي جعفر إلى أرض له نحو حائط يقال لها مدركة ، فركب على جمل صعب فقلت له : أبا جعفر ! أما تخاف أن يصرعك ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( على سنام كل بعير شيطان إذا ركبتموها فاذكروا اسم الله كما أمركم ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله ) . وقال علي بن ربيعة : شهدت علي بن أبي طالب ركب دابة يوما ، فلما وضع رجله في الركاب قال : باسم الله ، فلما استوى على الدابة قال الحمد لله ، ثم قال : " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين . وإنا إلى ربنا لمنقلبون " ثم قال : الحمد لله والله أكبر - ثلاثا - اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ؛ ثم ضحك فقلت له : ما أضحكك ؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت ، وقال كما قلت ، ثم ضحك فقلت له ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : ( العبد - أو قال - عجبا لعبد أن يقول اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيره ) . خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده ، وأبو عبد الله محمد بن خويزمنداد في أحكامه . وذكر الثعلبي نحوه مختصرا عن علي رضي الله عنه ، ولفظه عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الركاب قال : ( باسم الله - فإذا استوى قال - الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، وإذا نزلتم من الفلك والأنعام فقولوا : اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ) . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : من ركب ولم يقل " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " قال له الشيطان تغَنَّه ، فإن لم يحسن قال له تَمَنَّه . ذكره النحاس . ويستعيذ بالله من مقام من يقول لقرنائه : تعالوا نتنزه على الخيل أوفي بعض الزوارق ، فيركبون حاملين مع أنفسهم أواني الخمر والمعازف ، فلا يزالون يستقون حتى تمل طلاهم{[13597]} وهم على ظهور الدواب أو في بطون السفن وهي تجري بهم ، لا يذكرون إلا الشيطان ، ولا يمتثلون إلا أوامره . الزمخشري : ولقد بلغني أن بعض السلاطين ركب وهو يشرب الخمر من بلد إلى بلد بينهما مسيرة شهر ، فلم يصح إلا بعد ما أطمأنت به الدار ، فلم يشعر بمسيره ولا أحس به ، فكيف بين فعل أولئك الراكبين وبين ما أمر به في هذه الآية ! ؟


[13592]:آية 41 سورة هود.
[13593]:تقحم الفرس براكبه ألقاه على وجهه.
[13594]:في الأصول: "فهلكت".
[13595]:وجد على هامش نسخة من الأصل بخط ناسخه:" الرازم من الإبل: الثابت على الأرض الذي لا يقوم من الهزال. وقد رزمت الناقة ترزم وترزِم رزوما ورزاما قامت من الإعياء والهزال فلم تتحرك فهي رازم. قاله الجوهري في الصحاح".
[13596]:هذه عبارة ابن العربي والأصول: ويلاحظ أن القعود مذكر.
[13597]:الطلاء: ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه. وبعض العرب يسمي الخمر الطلاء، يريد ذلك تحسين اسمها.