{ يا أخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ }
أى : ما كان أبوك رجلاً زانياً أو معروفاً بالفحش { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } أى : تتعاطى الزنا . يقال : بغت المرأة ، إذا فجرت وابتعدت عن طريق الطهر والعفاف .
وليس المراد بهارون : هارون بن عمران أخا موسى ، وإنما المراد به رجل من قومها معروف بالصلاح والتقوى ، فشبهت به ، أى : يا أخت هارون فى الصلاح والتقوى .
أو المراد به أخ لها كان يسمى بهذا الاسم .
قال الآلوسى ما ملخصه : " وقوله : { ياأخت هَارُونَ } استئناف لتجديد التعيير ، وتأكيد التوبيخ ، وليس المراد بهارون أخا موسى بن عمران - عليهما السلام - لما أخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذى ، والنسائى ، والطبرانى ، وابن حبان ، وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال : بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران فقالوا : أرأيت ما تقرأون : { ياأخت هَارُونَ } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا . قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم " .
وعن قتادة قال : " هو رجل صالح فى بنى إسرائيل ، والأخت على هذا بمعنى المشابهة ، وشبهوها به تهكماً ، أو لما رأوا قبل من صلاحها . . " .
وعلى أية حال فإن مرادهم بقولهم هذا ، هو اتهام مريم بما هى بريئة منه ، والتعجب من حالها ، حيث انحدرت من أصول صالحة طاهرة ، ومع ذلك لم تنهج نهجهم .
{ يَا أُخْتَ هَارُونَ } أي : يا شبيهة هارون في العبادة { مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا } أي : أنت من بيت طيب طاهر ، معروف بالصلاح
والعبادة والزهادة{[18784]} ، فكيف صدر هذا منك ؟
قال علي بن أبي طلحة{[18785]} ، والسدي : قيل لها : { يَا أُخْتَ هَارُونَ } أي : أخي موسى ، وكانت من نسله{[18786]} كما يقال للتميمي : يا أخا تميم ، وللمضري : يا أخا مضر .
وقيل : نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون ، فكانت تقاس{[18787]} به في العبادة ، والزهادة .
وحكى ابن جرير عن بعضهم : أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم . يقال له : هارون . ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير .
وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم .
حدثنا علي بن الحسين الهِسِنْجَاني{[18788]} حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا المفضل بن فَضَالة ، حدثنا أبو صخر ، عن القُرَظي في قول الله عز وجل : { يَا أُخْتَ هَارُونَ } قال : هي أخت هارون لأبيه وأمه ، وهي أخت موسى أخي هارون التي قَصَّت أثر موسى ، { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ القصص : 11 ]
وهذا القول خطأ محض ، فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفَّى بعيسى بعد الرسل ، فدل على أنه آخر الأنبياء بعثًا وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليه{[18789]} ؛ ولهذا ثبت في الصحيح عند البخاري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي{[18790]} صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنا أولى الناس بابن مريم ؛ إلا أنه{[18791]} ليس بيني وبينه نبي " ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي ، لم يكن متأخرًا عن الرسل سوى محمد . ولكان قبل سليمان و{[18792]} داود ؛ فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى ، عليهما السلام في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسِيتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَالَنَا أَلا نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 246 ] فذكر القصة إلى أن قال : { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } الآية [ البقرة : 251 ] ، والذي جرأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر ، وإغراق فرعون وقومه ، قال : وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين ، تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل ، فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى . وهي{[18793]} هفوة وغلطة شديدة ، بل هي باسم هذه ، وقد كانوا يسمون بأسماء{[18794]} أنبيائهم وصالحيهم ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الله بن إدريس ، سمعت أبي يذكره{[18795]} عن سِمَاك ، عن علقمة بن وائل ، عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران ، فقالوا : أرأيت ما تقرءون : { يَا أُخْتَ هَارُونَ } ، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ألا أخبرتهم أنهم كانوا يَتَسَمّون{[18796]} بالأنبياء والصالحين قبلهم ؟ " .
انفرد بإخراجه مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث عبد الله بن إدريس ، عن أبيه ، عن سماك ، به{[18797]} ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن سعيد بن أبي صدقة ، عن محمد بن سيرين قال نُبِّئت أن كعبًا قال : إن قوله : { يَا أُخْتَ هَارُونَ } : ليس بهارون أخي موسى . قال : فقالت له عائشة : كذبت ، قال{[18798]} يا أم المؤمنين ، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، فهو أعلم وأخبر ، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة . قال : فسكتت{[18799]} وفي هذا التاريخ نظر .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا } قال : كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ، ولا يعرفون بالفساد ، [ ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به ، وآخرون يعرفون بالفساد ]{[18800]} ويتوالدون به . وكان هارون مصلحًا محببًا ، في عشيرته ، وليس بهارون أخي{[18801]} موسى ، ولكنه هارون آخر ، قال : وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفًا ، كلهم يسمى هارون ، من بني إسرائيل .
{ يا أخت هارون } يعنون هارون النبي عليه الصلاة والسلام وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة ، وقيل كانت من نسله وكان بينهما ألف سنة . وقيل هو رجل طالح أو صالح كان في زمانهم شبهوها به تهكما أو لما رأوا قبل من صلاحها أو شتموها به . { ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا } تقرير لآن ما جاءت به فري ، وتنبيه على أن الفواحش من أولاد الصالحين أفحش .
واختلف المفسرون في معنى قوله عز وجل ، { يا أخت هارون } . فقالت فرقة كان لها أخ اسمه { هارون } لأن هذا الاسم كان كثيراً في بني اسرائيل ، تبركاً باسم هارون أخي موسى ، وروى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى أهل نجران في أمر من الأمور فقال له النصارى إن صاحبك يزعم أن مريم «أخت هارون » وبينهما في المدة ستمائة سنة ، قال المغيرة فلم أدر ما أقول فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له . فقال ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين{[7946]} ، فالمعنى أنه اسم وافق اسماً ، وقال السدي وغيره : بل نسبوها الى { هارون } أخي موسى لأنها كانت من نسله وهذا كما تقول من قبيلة يا أخاً فلانة ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم »{[7947]} ، وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين إن مريم ليست ب «أخت لهارون » أخي موسى ، فقالت عائشة كذبت فقال لها يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى عليه وسلم قاله فهو أصدق وخير ، والاَّ فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة ، قال فسكتت{[7948]} . وقال قتادة : كان في ذلك الزمن في بني إسرائيل رجل عابد منقطع الى الله يسمى «هارون » فنسبوها الى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل إذ كانت موقوفة على خدمة البيع ، أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلاً لما أتيت به . وقالت فرقة : بل كان في ذلك الزمن رجل فاجر اسمه «هارون » فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ ذكره الطبري ولم يسم قائله ، والمعنى { ما كان أبوك } ولا أمك أهلاً لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها ؟ و «البغي » التي تبغي الزنا أي تطلبه ، أصلها بغوي فعول وقد تقدم ذكر ذلك .
الأخت : مؤنث الأخ ، اسم يضاف إلى اسم آخر ، فيطلق حقيقة على ابنة أبوي ما أضيفت إلى اسمه أو ابنة أحد أبويه . ويطلق على من تكون من أبناء صاحب الاسم الذي تضاف إليه إذا كان اسم قبيلة كقولهم : يا أخا العرب ، كما في حديث ضيف أبي بكر الصديق قوله لزوجه : « يا أخت بني فراس ما هذا ؟ » ، فإذا لم يذكر لفظ ( بني ) مضافاً إلى اسم جد القبيلة كان مقدّراً ، قال سهل بن مالك الفزاري :
يا أخت خير البدو والحضارة *** كيف تَرَيْن في فتى فزارة
يريد يا أخت أفضل قبائل العرب من بدوها وحضرها .
فقوله تعالى : { يا أُخْتَ هارُونَ } يحتمل أن يكون على حقيقته ، فيكون لمريم أخ اسمه هارون كان صالحاً في قومه ، خاطبوها بالإضافة إليه زيادة في التوبيخ ، أي ما كان لأخت مثله أن تفعل فعلتك ، وهذا أظهر الوجهين . ففي « صحيح مسلم » وغيره عن المغيرة ابن شعبة قال : « بعثني رسول الله إلى أهل نجران فقالوا : أرأيت ما تَقرؤون { ياأُخْتَ هارُونَ } ومُوسى قبلَ عيسى بكذا وكذا ؟ قال المغيرة : فلم أدر ما أقول ، فلما قدمتُ على رسول الله ذكرت ذلك له ، فقال : ألم يعلموا أنهم كانوا يُسمُّون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم » اهـ . ففي هذا تجهيل لأهل نجران أن طعنوا في القرآن على توهم أن ليس في القوم من اسمه هارون إلاّ هارون الرسول أخا موسى .
ويحتمل أن معنى { ياأُخْتَ هارُونَ } أنها إحدى النساء من ذريّة هارون أخي موسى ، كقول أبي بكر : يا أخت بني فراس . وقد كانت مريم من ذرية هارون أخي موسى من سبط لاوي .
ففي إنجيل لوقا كان كاهن اسمه زكرياء من فرقة أبِيّا وامرأتُه من بنات هارون واسمها إليصابات ، وإليصابات زوجة زكرياء نسيبة مريم ، أي ابنة عمّها ، وما وقع للمفسرين في نسب مريم أنها من نسل سليمان بن داوود خطأ .
ولعل قومها تكلموا باللفظين فحكاه القرآن بما يصلح لهما على وجه الإيجاز . وليس في هذا الاحتمال ما ينافي حديث المغيرة بن شعبة .
والسّوْء بفتح السين وسكون الواو : مصدر ساءه ، إذا أضرّ به وأفسد بعض حاله ، فإضافة اسمٍ إليه تفيد أنه من شؤونه وأفعاله وأنه هو مصدر له . فمعنى { امْرَأَ سَوْءٍ } رَجلَ عمل مفسد .
ومعنى البغي تقدّم قريباً . وعنوا بهذا الكلام الكناية عن كونها أتت بأمر ليس من شأن أهلها ، أي أتت بسوء ليس من شأن أبيها وبغاء ليس من شأن أمّها ، وخالفت سيرة أبويها فكانت امرأة سوء وكانت بغياً ؛ وما كان أبوها امرأ سوء ولا كانت أمها بغياً فكانت مبتكرة الفواحش في أهلها . وهم أرادوا ذمّها فأتوا بكلام صريحه ثناء على أبويها مقتض أن شأنها أن تكون مِثل أبويها .