التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُمۡ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ} (23)

ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم فى بضع آيات أن يذكر الكافرين بنعم الله - تعالى - عليهم ، وأن يرد على شبهاتهم وأكاذيبهم بما يدحضها ، وأن يكل أمره وأمرهم إليه وحده - تعالى - فقال :

{ قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ . . . } .

أي : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين - على سبيل تبصيرهم بالحج والدلائل الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا ، وعلى سبيل التنويع في الإرشاد والتوجيه . . قل لهم : الرحمن - عز وجل - هو الذي أنشأكم وأوجدكم في كل طور من أطوار حياتكم ، وهو سبحانه - الذي أوجد لكم السمع الذي تسمعون به ، والأبصار التي تبصرون بها الكائنات ، والأفئدة أي والقلوب التي تدركونها بها . .

ولكنكم - مع كل هذه النعم - { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } خالقكم - عز وجل - .

وجمع - سبحانه - الأفئدة والأبصار ، وأفرد السمع ، لأن القلوب تختلف باختلاف مقدار ما تفهمه مما يلقى إليها من إنذار أو تبشير ، ومن حجة أو دليل ، فكان من ذلك تعدد القلوب بتعدد الناس على حسب استعدادهم .

وكذلك شأن الناس فيما تنتظمه أبصارهم من آيات الله في كونه ، فإن أنظارهم تختلف في عمق تدبرها وضحولته ، فكان من ذلك تعدد المبصرين ، بتعدد مقادير ما يستنبطون من آيات الله في الآفاق .

وأما المسموع فهو بالنسبة للناس جميعا شئ واحد ، هو الحجة يناديهم بها المرسلون ، والدليل يوضحه لهم النبيون .

لذلك كان الناس جميعا كأنهم سمع واحد ، فكان إفراد السمع إيذانا من الله بأن حجته واحدة ، ودليله واحد لا يتعدد .

وقوله : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } صفة لمصدر محذوف ، أي : شكرا قليلا ، و { ما } مزيدة لتأكيد التقليل .

وعبر - سبحانه - بقوله : { قَلِيلاً } لحضهم على الإِكثار من شكره - تعالى - ، وذلك عن طريق إخلاص العبادة له - عز وجل - ونبذ عبادة غيره .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُمۡ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ} (23)

وقوله : { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ } أي : ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ } أي : العقول والإدراك ، { قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ } أي : قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم ، في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُمۡ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ} (23)

قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع لتسمعوا المواعظ والأبصار لتنظروا صنائعه والأفئدة لتتفكروا وتعتبروا ، قليلا ما تشكرون باستعمالها فيما خلقت لأجله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُمۡ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ} (23)

وقرأ طلحة : «أمَن يمشي » بتخفيف الميم ، وإفراد { السمع } لأنه اسم جنس يقع للكثير و { قليلاً } نصب بفعل مضمر ، و { ما } : مصدرية ، وهي في موضع رفع ، وقوله : { قليلاً ما تشكرون } يقتضي ظاهره أنهم يشكرون قليلاً ، فهذا إما أن يريد به ما عسى أن يكون للكافر من شكر ، وهو قليل غير نافع ، وإما أن يريد جملة ، فعبر بالقلة ، كما تقول العرب : هذه أرض قل ما تنبت كذا ، وهي لا تنبته بتة ، ومن شكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه النعمة أنه كان يقول في سجوده : «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره »{[11223]} .


[11223]:أخرجه مسلم في المسافرين وفي السجود، والترمذي في الجمعة والدعوات، والنسائي في التطبيق، وابن ماجه في الإقامة، وأحمد في مواضع مختلفة من مسنده، ولفظه كما جاء فيه (1/94،95) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر استفتح ثم قال: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين- قال أبو النضر: وأنا أول المسلمين- اللهم لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا، لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك). وكان إذا ركع قال: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت ، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظامي وعصبي)، وإذا رفع رأسه من الركعة قال: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السموات والأرض وما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد)، وإذا سجد قال: (اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه فصوره فأحسن صوره فشق سمه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين)، فإذا سلم من الصلاة قال: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُمۡ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ} (23)

هذا انتقال من توجيه الله تعالى الخطاب إلى المشركين للتبصير بالحجج والدلائل وما تخلل ذلك من الوعيد أو التهديد إلى خطابهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقُول لهم ما سيُذكر تفنناً في البيان وتنشيطاً للأذهان حتى كأنَّ الكلامَ صدَر من قائلين وترفيعاً لقدر نبيئه صلى الله عليه وسلم بإعطائه حظاً من التذكير معه كما قال تعالى : { فإنما يسرناه بلسانك } [ الدخان : 58 ] .

والانتقال هنا إلى الاستدلال بفُروع المخلوقات بعد الاستدلال بأصولها ، ومن الاستدلال بفروع أعراض الإِنسان بعد أصلها ، فمن الاستدلال بخلق السماوات والأرض والموت والحياة ، إلى الاستدلال بخلق الإِنسان ومداركه ، وقد أتبع الأمر بالقول بخمسةٍ مِثْلِه بطريقة التكرير بدون عاطف اهتماماً بما بعد كل أمر من مقالة يبلغها إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال : { هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار } ، الخ .

والضمير { هو } إلى { الرحمان } من قوله : { من دون الرحمان } [ الملك : 20 ] .

والإِنشاء : الإيجاد .

وإفراد { السمع } لأن أصله مصدر ، أي جعل لكم حاسة السمع ، وأما { الأبصار } فهو جمع البصر بمعنى العَين ، وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } في سورة البقرة ( 7 ) والأفئدة } القلوب ، والمراد بها العقول ، وهو إطلاق شائع في استعمال العرب .

والقصر المستفاد من تعريف المسند إليه والمسندِ في قوله : { هو الذي أنشأكم } إلى آخره قصرُ إفراد بتنزيل المخاطبين لشركهم منزلةَ من يعتقد أن الأصنام شاركت الله في الإِنشاء وإعطاء الإِحساس والإِدراك .

و{ قليلاً ما تشكرون } حال من ضمير المخاطبين ، أي أنعم عليكم بهذه النعم في حال إهمالكم شكرها .

و { مَا } مصدرية والمصدر المنسبك في موضع فاعل { قليلاً } لاعتماد { قليلاً } على صاحب حال . و { قليلاً } صفة مشبَّهة .

وقد استعمل { قليلاً } في معنى النفي والعدم ، وهذا الإِطلاق من ضروب الكناية والاقتصاد في الحكم على طريقة التمليح وتقدم عند قوله تعالى : { فقليلاً ما يؤمنون } [ البقرة : 88 ] وقوله تعالى : { فلا يؤمنون إلاّ قليلاً } في سورة النساء ( 155 ) ، وتقول العرب : هذه أرض قلما تنبت .