ويرد نوح على قومه بأسلوب عف مهذب ، فينفى عن نفسه الضلالة ، ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومصدرها فيقول - كما حكى القرآن عنه - :
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } أى : قال نوح لقومه مستميلا لقلوبهم : يا قوم ليس بى أدنى شىء مما يسمى بالضلال فضلا عن الضلال المبين الذي رميتمونى به ، فقد نفى الضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه ، لأن التاء في - ضلالة - للمرة الواحدة منه ، ونفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى ، والمقام يقتضى ذلك ، لأنهم لما بالغوا في رميه بالضلال المبين ، رد عليهم بما يبرئه من أى لونه من ألوانه . وفى تقديم الظرف ( بي ) تعريض بأنهم هم في ضلال واضح .
ثم قفى على نفى الضلالة عنه بإثبات مقابلها لنفسه وهى الهداية والتبليغ عن الله - تعالى - فقال : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
فأنت ترى أن نوحاً - عليه السلام - بعد أن نفى عن نفسه أى لون من ألوان الضلالة وصف نفسه بأربع صفات كريمة :
أولها : قوله : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } أى : لست بمنجاة من الضلال الذي أنتم فيه فحسب ، ولكنى فضلا عن ذلك رسول من رب العالمين إليكم لهدايتكم وإنقاذكم مما أنتم فيه من شرك وكفر .
قال الجمل : ( وقد جاءت لكن هنا أحسن مجىء لأنها ين نقيضين ، لأن الإنسان لا يخلو من أحد شيئين : ضلال أو هدى ، والرسالة لا تجامع الضلال و { مِّن رَّبِّ العالمين } صفة لرسول ومن لابتداء الغاية ) .
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال نوح لقومه مجيبا لهم: يا قوم لم آمركم بما أمرتكم به من إخلاص التوحيد لله وإفراده بالطاعة دون الأنداد والآلهة زوالاً مني عن محجة الحقّ، وضلالاً لسبيل الصواب، وما بي ما تظنون من الضلال، ولكني رسول إليكم من ربّ العالمين، بما أمرتكم به من إفراده بالطاعة والإقرار له بالوحدانية والبراءة من الأنداد والآلهة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قال يا قوم ليس بي ضلالة} أي لست أنا بضال؛ لأنه إذا نفى الضلال عنه نفى أن يكون ضالا، وهو حرف رفق ولين. وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل أن يعاملوا قومهم؛ لأن ذلك أنجع للقلوب، وإلى القبول أقرب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قوله: {لَيْسَ بِي ضَلاَلةٌ}: نسبوا نوحاً -عليه السلام- إلى الضلالة، فتولَّى إجابتهم بنفسه فقال: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ}، ونبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- نُسِبَ إليه فتولَّى الحق -سبحانه- الردَّ عنه فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] فشتان بين مَنْ دافع عن نفسه، وبين مَنْ دَافَع عنه ونفى عنه ربُّهّ...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من ربّ العالمين) علّم الله -تعالى- الناس بذكر قوله حسن الجواب، حيث قال: «ليس بي ضلالة» ولم يقل: أنتم الضلال، كما جرت عادتنا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم قال: {لَيْسَ بِي ضلالة} ولم يقل ضلال كما قالوا؟ قلت: الضلالة أخصّ من الضلال، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي شيء من الضلال، كما لو قيل لك: ألك تمر، فقلت: ما لي تمرة. فإن قلت: كيف وقع قوله: {وَلَكِنّي رَسُولٌ} استدراكاً للانتفاء عن الضلالة؟ قلت: كونه رسولاً من الله مبلغاً رسالاته ناصحاً، في معنى كونه على الصراط المستقيم، فصحّ لذلك أن يكون استدراكاً للانتفاء عن الضلالة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله لهم جواباً عن هذا {ليس بي ضلالة} مبالغة في حسن الأدب والإعراض عن الجفاء منهم، وتناول رفيق وسعة صدر حسبما يقتضيه خلق النبوة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قذفوه بضلال مقيد بالوضوح، نفى الضلال المطلق الذي هو الأعم، وبنفيه ينتفي كل أخصيّاته بل نفي أقل شيء من الضلال، فقال تعالى مخبراً عنه {قال ياقوم} مجدداً لا ستعطافهم {ليس بي ضلالة} فنفى وحدة غير معينة، ولا يصدق ذلك إلا بنفي لكل فرد، فهو أنص من نفي المصدر، ولم يصف الملأ من قومه هنا بالذين كفروا ووصفهم بذلك في سورة هود، إما لأنها صفة ذم لم يقصد بها التقييد فلا يختل المعنى بإثباتها ولا نفيها، أو لأنهم أجابوه بذلك مرتين: إحداهما قبل أن يسلم أحد من أشرافهم، والثانية بعد أن أسلم بعضهم. ولما نفى ما رموه به على هذا الوجه البليغ، أثبت له ضده بأشرف ما يكون من صفات الخلق، فقال مستدركاً -بعد نفي الضلال- إثبات ملزوم ضده: {ولكني رسول} أي إليكم بما أمرتكم به فأنا على أقوم طريق {من رب العالمين} أي المحسن إليهم بإرسال الرسل لهدايتهم بإنقاذهم من الضلال، فرد الأمر عليهم 96 بألطف إشارة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين} أي لست بمنجاة من الضلال الذي أنتم فيه فقط بل أنا رسول من رب العالمين إليكم ليهديكم باتباعي سبيل الرشاد، وينقذكم على يدي من الهلاك الأبدي بالشرك وما يلزمه من الخرافات والمعاصي المدنسة للأنفس المفسدة للأرواح. والقدوة في الهدى، لا يمكن أن يكون ضالا فيما به أتى، ومن آثار رحمة الربوبية أن لا يدعكم على شرككم الذي ابتدعتموه بجهلكم، حتى يتبين لكم الحق من الباطل. ثم بين موضوع الرسالة بأسلوب الاستئناف الذي يقتضيه المقام وهو ما تتوجه إليه الأنفس من السؤال عما جاء به بدعواه من عند الله. فقال: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي}.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
قال القاضي عبد الجبار:"وهذه الجملة يعرف بها رفق الأنبياء وحسن دعائهم إلى الدين، وفيها إذا تأملها المرء ما يعتبر به ويعرف آداب الأنبياء صلى الله عليهم وسلم في الدعاء إلى الدين، وصبرهم على ما نالهم من الأمم، فيقتدي بهم"...
{رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي من سيد العالمين ومن متولي تربية العالمين، ومن يتولى التربية لا يُنزل منهجا يضل به من يربيهم، بل ينزل منهجا ليصلح من يربيهم، وسبحانه قبل أن يأتي بهم إلى الوجود سخر لهم كل هذا الكون، وأمدهم بالأرزاق حتى الكافرين منهم، ومن يعمل كل ذلك لن يرسل لهم من يضلهم...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.