ثم بين - سبحانه - سنة من سننه التي لا تتخلف فقال : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
أى : إن الله - تعالى - قد اقتضت سننه في خلقه ، أن لا يظلمهم شيئاً ، كأن يعذبهم - مثلا - مع إيمانهم وطاعتهم له ، أو كأن ينقصهم شيئا من الأسباب التي يهتدون باستعمالها إلى ما فيه خيرهم . . ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم ، بإيرادها موارد المهالك عن طريق اجتراح السيئات ، واقتراف الموبقات ، الموجبة للعقوبات في الدنيا والآخرة .
وبذلك نرى أن هذه الآية الكريمة ، قد نفت تصور أن يكون هذا القرآن من عند غير الله ، وتحدث المشركين أن يأتوا بسورة مثله ، ووصمتهم بالتسرع في الحكم على شيء لم يحيطوا بعلمه ، وأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يثبت على دعوة الحق ، سواء استجاب له الناس أم لم يتسجيبوا ، وأن الله - تعالى - قد اقتضت حكمته ألا يعذب الناس إلا إذا فعلوا ما يوجب العقوبة ، وصدق الله إذ يقول : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً }
ثم صور - سبحانه - ما عليه أولئك الجاحدون من جهالات مطبقة ، وغباء مستحكم فقال - تعالى - : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ . وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } .
أى : ومن هؤلاء المشركين - يا محمد - من يستمعون إليك وأنت تقرأ عليهم القرآن وترشدهم إلى ما ينفعهم ، ولكنهم يستمعون بلا تدبر أو فهم ، فهل أنت - يا محمد - في إمكانك أن تسمع الصم ، ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم ، لأن الأصم العاقل - كما يقول صاحب الكشاف - ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوى الصوت ، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعا فقد تم الأمر .
ومنهم - أيضاً - من ينظر إليك ، ويشاهد البراهين الدالى على صدقك ، فإن وجهك ليس بوجه كذاب ، ولكنه لا يتبع دعوتك جحودا وعنادا ، فهل أنت في إمكانك أن تهدي العمى ولو انضم إلى فقدان بصرهم فقدان بصيرتهم فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد نعتا على المشركين جهالاتهم ، وانطماس بصيرتهم ، بحيث صاروا لا ينتفعون بنعم الله التي أنعم بها عليهم .
فقد وصمهم - سبحانه - يفقدان السمع والبصر والعقل ، مع أنهم يسمعون ويبصرون ويعقلو ، لأنهم لما لم يستعملوا نعم الله فيما خلقت له ، صارت هيا والعدم سواء .
والاستفهام في الآيتين للإِنكار والاستبعاد .
وجواب { لو } في الآيتين محذوف لدلالة ما قبله عليه ، والجملة معطوفة على جملة مقدرة مقابلة لها . أى : أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون ، على معنى أفأنت تستطيع إسماعهم في الحالتين ؟ كلا لا تستطيع ذلك وإنما القادر على ذلك هو الله وحده .
ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدا شيئًا ، وإن كان قد هدى به من هدى [ من الغي ]{[14247]} ، فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء ، الذي لا يُسْأل عما يفعل وهم يسألون ، لعلمه وحكمته وعدله ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } وفي الحديث عن أبي ذر{[14248]} عن النبي{[14249]} صلى الله عليه وسلم ، فيما يرويه عنه ربه عز وجل : " يا عبادي ، إني حرّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا - إلى أن قال في آخره : يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه " . رواه مسلم بطوله . {[14250]}
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً وَلََكِنّ النّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إن الله لا يفعل بخلقه ما لا يستحقون منه ، لا يعاقبهم إلا بمعصيتهم إياه ، ولا يعذّبهم إلا بكفرهم به ولَكِنّ النّاسَ يقول : ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم باجترامهم ما يورثها غضب الله وسخطه . وإنما هذا إعلام من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، أنه لم يسلب هؤلاء الذين أخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم لا يؤمنون الإيمان ابتداء منه بغير جرم سلف منهم ، وإخبار أنه إنما سلبهم ذلك باستحقاق منهم سلبه لذنوب اكتسبوها ، فحقّ عليهم قول ربهم ، وطَبَعَ على قُلوبِهِمْ .
قرأت فرقة : «ولكنْ الناس » بتخفيف «لكِن » ورفع «الناسُ » ، وقرأت فرقة «ولكنّ » بتشديد «لكنّ » ونصب «الناسَ » ، وظلم الناس لأنفسهم إنما هو بالتكسب منهم الذي يقارن اختراع الله تعالى لأفعالهم ، وعرف «لكن » إذا كان قبلها واو أن تثقل وإذا عريت من الواو أن تخفف ، وقد ينخرم هذا ، وقال الكوفيون : قد يدخل اللام في خبر «لكن » المشددة على حد دخولها في «أن » ومنع ذلك البصريون .
تذييل ، وشمل عموم الناس المشركين الذين يستمعون ولا يهتدون وينظرون ولا يعتبرون . والمقصود من هذا التذييل التعريض بالوعيد بأنْ سينالهم ما نال جميع الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب رسل الله . وعموم { الناس } الأولِ على بابه وعموم { الناس } الثاني مراد به خصوص الناس الذين ظلَموا أنفسهم بقرينة الخبر . وإنما حسن الإتيان في جانب هؤلاء بصيغة العموم تنزيلاً للكثرة منزلة الإحاطة لأن ذلك غالب حال الناس في ذلك الوقت .
وهذا الاستدراك أشعر بكلام مطوي بعد نفي الظلم عن الله ، وهو أن الله لا يظلم الناس بعقابه من لم يستوجب العقاب ولكن الناس يظلمون فيستحقون العقاب ، فصار المعنى أن الله لا يظلم الناس بالعقاب ولكنهم يظلمون أنفسهم بالاعتداء على ما أراد منهم فيعاقبهم عدلاً لأنهم ظلَموا فاستوجبوا العقاب .
وتقديم المفعول على عامله لإفادة تغليطهم بأنهم ما جنوا بكفرهم إلا على أنفسهم وما ظلموا الله ولا رسله فما أضروا بعملهم إلا أنفسهم .
وقرأ الجمهور بتشديد نون { لكنّ } ونصب { الناس } . وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتخفيف النون ورفع { الناس } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.