مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَيۡـٔٗا وَلَٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (44)

قوله تعالى { ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمى ولو كانوا لا يبصرون ، إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى في الآية الأولى ، قسم الكفار إلى قسمين منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به ، وفي هذه الآية قسم من لا يؤمن به قسمين : منهم من يكون في غاية البغض له والعداوة له ونهاية النفرة عن قبول دينه ، ومنهم من لا يكون كذلك ، فوصف القسم الأول في هذه الآية فقال : ومنهم من يستمع كلامك مع أنه يكون كالأصم من حيث إنه لا ينتفع البتة بذلك الكلام فإن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر ، وعظمت نفرته عنه ، صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابح كلامه معرضة عن جميع جهات محاسن كلامه ، فالصمم في الأذن ، معنى ينافي حصول إدراك الصوت فكذلك حصول هذا البغض الشديد كالمنافي للوقوف على محاسن ذلك الكلام . والعمى في العين معنى ينافي حصول إدراك الصورة ، فكذلك البغض ينافي وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه والوقوف على ما آتاه الله تعالى من الفضائل ، فبين تعالى أن في أولئك الكفار من بلغت حالته في البغض والعداوة إلى هذا الحد ، ثم كما أنه لا يمكن جعل الأصم سميعا ولا جعل الأعمى بصيرا ، فكذلك لا يمكن جعل العدو البالغ في العداوة إلى هذا الحد صديقا تابعا للرسول صلى الله عليه وسلم والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هذه الطائفة ، قد بلغوا في مرض العقل إلى حيث لا يقبلون العلاج . والطبيب إذا رأى مريضا لا يقبل العلاج أعرض عنه ، ولم يستوحش من عدم قبوله للعلاج ، فكذلك وجب عليك أن لا تستوحش من حال هؤلاء الكفار .

المسألة الثانية : احتج ابن قتيبة بهذه الآية ، على أن السمع أفضل من البصر . فقال : إن الله تعالى قرن بذهاب السمع ذهاب العقل ، ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر ، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر . وزيف ابن الأنباري هذا الدليل . فقال : إن الذي نفاه الله مع السمع بمنزلة الذي نفاه الله مع البصر لأنه تعالى أراد إبصار القلوب ، ولم يرد إبصار العيون . والذي يبصره القلب هو الذي يعقله . واحتج ابن قتيبة على هذا المطلوب بحجة أخرى من القرآن ، فقال : كلما ذكر الله السمع والبصر ، فإنه في الأغلب يقدم السمع على البصر ، وذلك يدل على أن السمع أفضل من البصر ومن الناس من ذكر في هذا الباب دلائل أخرى : فأحدها : أن العمى قد وقع في حق الأنبياء عليهم السلام . أما الصمم فغير جائز عليهم لأنه يخل بأداء الرسالة ، من حيث إنه إذا لم يسمع كلام السائلين تعذر عليه الجواب . فيعجز عن تبليغ شرائع الله تعالى .

الحجة الثانية : أن القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب ، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلا من جهة واحدة وهي المقابل .

الحجة الثالثة : أن الإنسان إنما يستفيد العلم بالتعلم من الأستاذ ، وذلك لا يمكن إلا بقوة السمع ، فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع ، ولا يتوقف على قوة البصر ، فكان السمع أفضل من البصر .

الحجة الرابعة : أنه تعالى قال : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } والمراد من القلب ههنا العقل ، فجعل السمع قرينا للعقل . ويتأكد هذا بقوله تعالى : { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } فجعلوا السمع سببا للخلاص من عذاب السعير .

الحجة الخامسة : أن المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق والكلام . وإنما ينتفع بذلك بالقوة السامعة ، فمتعلق السمع النطق الذي به حصل شرف الإنسان ، ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال ، وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات ، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر .

الحجة السادسة : أن الأنبياء عليهم السلام يراهم الناس ويسمعون كلامهم ، فنبوتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية ، وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأصوات المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع وبيان الأحكام ، فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئي ، فلزم أن يكون السمع أفضل من البصر ، فهذا جملة ما تمسك به القائلون بأن السمع أفضل من البصر ، ومن الناس من قال : البصر أفضل من السمع ، ويدل عليه وجوه .

الحجة الأولى : أنهم قالوا في المثل المشهور ليس وراء العيان بيان ، وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الأبصار .

الحجة الثانية : أن آلة القوة الباصرة هو النور وآلة القوة السامعة هي الهواء والنور أشرف من الهواء . فالقوة الباصرة أشرف من القوة السامعة .

الحجة الثالثة : أن عجائب حكمة الله تعالى في تخليق العين التي هي محل الأبصار أكثر من عجائب خلقته في الأذن التي هي محل السماع ، فإنه تعالى جعل تمام روح واحد من الأرواح السبعة الدماغية من العصب آلة للابصار ، وركب العين من سبع طبقات وثلاث رطوبات . وخلق لتحريكات العين عضلات كثيرة على صور مختلفة ، والأذن ليس كذلك وكثرة العناية في تخليق الشيء تدل على كونه أفضل من غيره .

الحجة الرابعة : أن البصر يرى ماحصل فوق سبع سموات . والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ ، فكان البصر أقوى وأفضل . وبهذا البيان يدفع قولهم إن السمع يدرك من كل الجوانب والبصر لا يدرك إلا من الجانب الواحد .

الحجة الخامسة : أن كثيرا من الأنبياء سمع كلام الله في الدنيا ، واختلفوا في أنه هل رآه أحد في الدنيا أم لا ؟ وأيضا فإن موسى عليه السلام سمع كلامه من غير سبق سؤال والتماس ولما سأل الرؤية قال :

{ لن تراني } وذلك يدل على أن حال الرؤية أعلى من حال السماع .

الحجة السادسة : قال ابن الأنباري : كيف يكون السمع أفضل من البصر وبالبصر يحصل جمال الوجه ، وبذهابه عيبه ، وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيبا ، العرب تسمي العينين الكريمتين ولا تصف السمع بمثل هذا ؟ ومنه الحديث القدسي عن الله تعالى : « من أذهبت كريمته فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة » .

المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية ، على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، قالوا : الآية دالة على أن قلوب أولئك الكفار بالنسبة إلى الإيمان كالأصم بالنسبة إلى استماع الكلام ، وكالأعمى بالنسبة إلى إبصار الأشياء ، وكما أن هذا ممتنع فكذلك ما نحن فيه . قالوا : والذي يقوي ذلك أن حصول العداوة القوية الشديدة ، وكذلك حصول المحبة الشديدة في القلب ليس باختيار الإنسان ، لأن عند حصول هذه العداوة الشديدة يجد وجدانا ضروريا أن القلب يصير كالأصم والأعمى في استماع كلام العدو وفي مطالعة أفعاله الحسنة ، وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل المطلوب ، وأيضا لما حكم الله تعالى عليها حكما جازما بعدم الإيمان ، فحينئذ يلزم من حصول الإيمان انقلاب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا وذلك محال .

وأما المعتزلة : فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى : { إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون } وجه الاستدلال به ، أنه يدل على أنه تعالى ما ألجأ أحدا إلى هذه القبائح والمنكرات ، ولكنهم باختيار أنفسهم يقدمون عليها ويباشرونها .

أجاب الواحدي عنه فقال : إنه تعالى إنما نفى الظلم عن نفسه ، لأنه يتصرف في ملك نفسه ، ومن كان كذلك لم يكن ظالما ، وإنما قال : { ولكن الناس أنفسهم يظلمون } لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب .