معاني القرآن للفراء - الفراء  
{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَيۡـٔٗا وَلَٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (44)

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ الناسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ الناسَ }

للعرب في ( لكن ) لغتان : تشديد النون وإسكانها . فمن شدّدها نصب بها الأسماء ، ولم يلها فَعَلَ ولا يَفْعَل . ومَن خفَّف نُونها وأسكنها لم يُعمِلها في شيء اسمٍ ولا فعل ، وكان الذي يعمل في الاسم الذي بعدها ما معه ، ينصبه أو يرفعه أو يخفضه ؛ من ذلك قوله { ولكِنِ الناسُ أَنفسهم يظلِمون } { ولكِنِ اللّهُ رَمَى } { ولكِنِ الشياطينُ كفروا } رُفعت هذه الأحرف بالأفافيل التي بعدها . وأما قوله { ما كان محمد أَبا أَحدٍ مِن رِجالِكم ولكِن رسولَ اللّهِ } فإنك أضمرت ( كان ) بعد ( لكن ) فنصبت بها ، ولو رفعته على أن تضمر ( هو ) : ولكن هو رسول الله كان صوابا . ومثله { وما كان هذا القرآن أن يفترى مِن دونِ اللّهِ ولكِن تصدِيقَ الذي بين يديه } و ( تصدِيقُ ) . ومثله { ما كان حدِيثا يفترى ولكِن تصدِيقَ الذي بين يديه } ( وتصديقُ ) .

فإذا ألقيت من ( لكن ) الواو التي في أوّلها آثرت العربُ تخفيف نونها . وإذا أدخلوا الواو وآثروا تشديدها . وإنما فعلوا ذلك لأنها رجوع عما أصاب أوّل الكلام ، فشبِّهت ببل إذْ كان رجوعا مثلها ؛ ألا ترى أنك تقول : لم يقم أخوك بل أبوك ثم تقول : لم يقم أخوك لكن أبوك ، فتراهما بمعنى واحد ، والواو لا تصلح في بل ، فإذا قالوا ( ولكن ) فأدخلوا الواو تباعدت من ( بل ) إذ لم تصلح الواو في ( بل ) ، فآثروا فيها تشديد النون ، وجعلوا الواو كأنها واو ودخلت لعطفٍ لا لمعنى بل .

وإنما نصبت العربُ بها إذا شُدّدت نونها لأن أصلها : إنّ عبد الله قائم ، فزيدت على ( إن ) لام وكاف فصارتا جميعا حرفا واحدا ؛ ألا ترى أن الشاعر قال :

*** ولكننِي مِن حُبّها لكَميد ***

فلم تدخل اللام إلا لأن معناها إنّ .

وهي فيما وصلت به من أوّلها بمنزلة قول الشاعر :

لهِنَّكِ من عَبْسِيّةٍ لوِسيمةٌ *** على هُنُواتٍ كاذبٍ من يقولها

وصل ( إنّ ) ها هنا بلام وهاء ؛ كما وصلها ثَمَّ بلام وكاف . والحرف قد يوصل من أوّله وآخره . فما وصل من أوله ( هذا ) ، ( ها ذاك ) ، وصل ب ( ها ) من أوّله . ومما وصل من آخره . قوله : { إما تُرِيَنِّي ما يُوعدون } ، وقوله : لتذهبن ولتجلسن . وصل من آخره بنون وب ( ما ) . ونرى أن قول العرب : كم مالك ، أنها ( ما ) وصلت من أولها بكاف ، ثم إن الكلام كثر ب ( كم ) حتى حذفت الألف من آخرها فسكنت ميمها ؛ كما قالوا : لِمْ قلت ذاك ؟ ومعناه : لِمَ قلت ذاك ، ولما قلت ذاك ؟ قال الشاعر :

يا أبا الأسود لِمْ أسلمتني *** لهموم طارقات وذِكر

وقال بعض العرب في كلامه وقيل له : منذ كم قعد فلان ؟ فقال : كَمُذْ أخذتَ في حديثك ، فردُّه الكاف في ( مذ ) يدلّ على أن الكاف في ( كم ) زائدة . وإنهم ليقولون : كيف أصبحت ، فيقول : كالخير ، وكخير . وقيل لبعضهم : كيف تصنعون الأَقِط ؟ فقال : كهيّن .