فما كان منهم عندما باغتهم العذاب في وقت اطمئنانهم وراحتهم إلى أن اعترفوا بذنوبهم وقالوا على سبيل التحسر والندم وطمعا في الخلاص : إنا كنا ظالمين .
فهاتان الآيتان الكريمتان توضحان بأجلى بيان أن هلاك الأمم سببه بغيها وفسادها وانحرافها عن الطريق المستقيم ، وتلك سنة الله التي لا تختلف في أى زمان أو مكان . وأن الظالمين عندما يفاجأون بالعقوبة يتحسرون ولا يستطيعون إنكار ما ارتكبوه من جرائم ومنكرات ولكن ذلك لن ينفعهم لأن ندمهم وتحسرهم قد فات وقته ، وكان الأجدر بهم أن يتوبموا من ذنوبهم عندما جاءتهم النذر ، وقبل حلول العذاب .
ولذا قال ابن كثير : قال ابن جرير : في هذه الآية الدالالة الواضحة في صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " ما هلك قوم حتى يعذروا عن أنفسهم " .
و { أَوْ } في قوله : { فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } للتنويع ، أى أن بعضهم جاءهم عذابنا ليلا وبعضهم جاءهم نهاراً عند استراحتهم . وإنما خص هذان الوقتان بنزول العذاب ، لأنهما وقتا غفلة ودعة واستراحة ، فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأوجع .
ومن العبر التي نأخذها من هاتين الآيتين أن العاقل هو الذي يحافظ على أداء الأوامر واجتناب النواهى ، ولا يأمن صفو الليالى ، ورخاء الأيام ، بل يعيش حياته وصلته بربه مبنية على الخوف والرجاء فإنه { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون }
وقوله : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي : فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم ، وأنهم حقيقون بهذا . كما قال تعالى : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً [ وَأَنْشَأَْ بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ . قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا ] خَامِدِين }{[11549]} [ الأنبياء : 11 - 15 ] .
وقال ابن جرير : في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم " ، حدثنا بذلك ابن حُمَيْد ، حدثنا جرير ، عن أبي سِنان ، عن عبد الملك بن مَيْسَرة الزرّاد قال : قال عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ]{[11550]} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم " . قال : قلت لعبد الملك : كيف يكون ذاك ؟ قال : فقرأ هذه الآية : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }{[11551]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاّ أَن قَالُوَاْ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فلم يكن دعوى أهل القرية التي أهلكناها إذ جاءهم بأسنا وسطوتنا بياتا أو هم قائلون ، إلا اعترافهم على أنفسهم بأنهم كانوا إلى أنفسهم مسيئين وبربهم آثمين ولأمره ونهيه مخالفين . وعنى بقوله جلّ ثناؤه : دَعْواهُمْ في هذا الموضع دعاءهم . وللدعوى في كلام العرب وجهان : أحدهما الدعاء والاَخر الادّعاء للحقّ . ومن الدعوى التي معناها الدعاء قول الله تبارك وتعالى : فَمَا زَالَتْ تِلكَ دَعْوَاهُمْ ومنه قول الشاعر :
وَإنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ أَشْتَفي ***بدَعْوَاكِ مِنْ مَذْلٍ بِها فَيَهُونُ
وقد بيّنا فيما مضى قبل أن البأس والبأساء : الشدّة ، بشواهد ذلك الدالة على صحته ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وفي هذه الاَية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : «ما هَلَكَ قَوْمٌ حتى يُعْذِرُوا مِنْ أنْفُسِهِمْ » . وقد تأوّل ذلك كذلك بعضهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن أبي سنان ، عن عبد الملك بن ميسرة الزرّاد ، قال : قال عبد الله بن مسعود ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما هَلَكَ قَوْمٌ حتى يُعْذِرُوا مِنْ أنْفُسِهِمْ » قال : قلت لعبد الملك : كيف يكون ذلك ؟ قال : فقرأ هذه الاَية : فَمَا كانَ دَعْوَاهُمْ إذْ جاءَهُمْ بأسُنا . . . الاَية
فإن قال قائل : وكيف قيل : فَمَا كانَ دَعْوَاهُمْ إذْ جاءَهُمْ بأْسُنا إلاّ أنْ قالُوا إنّا كُنّا ظالِمِينَ وكيف أمكنتهم الدعوى بذلك وقد جاءهم بأس الله بالهلاك ، أقالوا ذلك قبل الهلاك ؟ فإن كانوا قالوه قبل الهلاك ، فإنهم قالوا قبل مجيء البأس ، والله يخبر عنهم أنهم قالوه حين جاءهم لا قبل ذلك ، أو قالوه بعد ما جاءهم فتلك حالة قد هلكوا فيها ، فكيف يجوز وصفهم بقيل ذلك إذا عاينوا بأس الله وحقيقة ما كانت الرسل تعدهم من سطوة الله ؟ قيل : ليس كل الأمم كان هلاكها في لحظة ليس بين أوّله وآخره مهل ، بل كان منهم من غرق بالطوفان ، فكان بين أوّل ظهور السبب الذي علموا أنهم به هالكون وبين آخره الذي عمّ جميعهم هلاكه المدّة التي لا خفاء بها على ذي عقل ومنهم من متع بالحياة بعد ظهور علامة الهلاك لأعينهم أياما ثلاثة ، كقوم صالح وأشباههم ، فحينئذٍ لما عاينوا أوائل بأس الله الذي كانت رسل الله تتوعدهم به وأيقنوا حقيقة نزول سطوة الله بهم ، دعوا : يا وَيْلَنا إنّا كُنّا ظالِمِين فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ مع مجيء وعيد الله وحلول نقمته بساحتهم ، فحذّر ربنا جلّ ثناؤه الذين أرسل إليهم نبيه صلى الله عليه وسلم من سطوته وعقابه على كفرهم به وتكذيبهم رسوله ، ما حلّ بمن كان قبلهم من الأمم ، إذ عصوا رسله واتبعوا أمر كلّ جبار عنيد .
وقوله تعالى : { فما كان دعواهم } الآية ، تبين في هذه الآية غاية البيان أن المراد في الآية قبلها أهل القرى ، والدعوى في كلام العرب لمعنيين ، أحدهما الدعاء قال الخليل : تقول اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين ومنه قوله عز وجل : { فما زالت تلك دعواهم } .
وإن مَذِلَتْ رجلي دعوتك أشتفي*** بدعواك من مذل بها فيهونُ
والثاني الادعاء ، فقال الطبري : هي في هذا الموضع بعنى الدعاء .
قال القاضي أبو محمد : ويتوجه أن يكون أيضاً بمعنى الادعاء ، لأن من ناله مكروه أو حزبه حادث فمن شأنه أن يدعو كما ذهب إليه المفسرون في فعل هؤلاء المذكورين في هذه الآية ، ومن شأنه أيضاً أن يدعي معاذير وأشياء تحسن حاله وتقيم حجته في زعمه ، فيتجه أن يكون هؤلاء بحال من يدعي معاذير ونحوها ، فأخبر الله عنهم أنهم لم تكن لهم دعوى ثم استثنى من غير الأول ، كأنه قال لم يكن دعاء أو ادعاء إلا الإقرار والاعتراف ، أي هذا كان بدل الدعاء أو الادعاء ، وتحتمل الآية أن يكون المعنى فما آلت دعواهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى اعتراف ، ونحو من الآية قول الشاعر : [ الفرزدق ]
وقد شهدت قيس فما كان نصرها*** قتيبة إلا عضها بالأباهم
واعترافهم وقولهم { إنا كنا ظالمين } هو في المدة بين ظهور العذاب إلى إتيانه على أنفسهم ، وفي ذلك مهلة بحسب نوع العذاب تتسع لهذه المقالة وغيرها ، وروى ابن مسعود عن النبي عليه السلام أنه قال «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم » . وفسر عبد الملك بن ميسرة هذا الحديث بهذه الآية . و { دعواهم } خبر كان ، واسمها { إلا أن قالوا } وقيل بالعكس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.