التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ} (77)

ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بإقامة الأدلة الساطعة على أن البعث حق ، وعلى أن قدرته - تعالى - لا يعجزها شئ ، فقال - تعالى - :

{ أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا . . . } .

قد ذكروا فى سبب نزول هذه الآيات ، " أن أبىَّ بن خلف جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى يده عظم رميم ، وهو يفتته ويذريه فى الهواء ويقول : يا محمد ، أتزعم أن الله يبعث هذا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم . يميتك الله - تعالى - ثم يبعثك ، ثم يحشرك إلى النار " ونزلت هذه الآيات إلى آخر السورة . . .

والمراد بالإِنسان : جنسه . ويدخل فيه المنكرون للبعث دخولا أوليا .

وأصل النطفة : الماء القليل الذى يبقى فى الدلو أو القربة . وجمعها نطف ونطاف . يقال : نطفت القربة ، إذا تقاطر ماؤها بقلة .

والمراد بها هنا : المنى الذى يخرج من الرجل ، إلى رحم المرأة .

والخصيم : الشديد الخصام والجدال لغيره ، والمراد به هنا : الكافر والمجادل بالباطل .

والمعنى : أبلغ الجهل بهذا الإِنسان ، أنه لم يعلم أنا خلقناه بقدرتنا ، من ذلك الماء المهين الذى يخرج من الرجل فيصيب فى رحم المرأة ، وأن من أوجده من هذا الماء قادر على أن يعيده إلى الحياة بعد الموت .

لقد كان من الواجب عليه أن يدرك ذلك ، ولكنه لغفلته وعناده ، بادر بالمبالغة فى الخصومة والجدل الباطل . وجاهر بذلك مجاهرة واضحة ، مع علمه بأصل خلقته .

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ } كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث ، بعد ما شاهدوا فى أنفسهم ما يوجب التصديق به . . . والهمزة للإِنكار والتعجب من أحوالهم ، وإيراد الإِنسان مورد الضمير ، لأن مدار الإِنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان . والمراد بالإِنسان الجنس . والخصيم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقا .

وقوله : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } عطف على الجملة المنفية ، داخل فى حيز الإِنكار والتعجب كأنه قيل : أو لم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ، فأظهر الخصومة فى أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة . . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ} (77)

والمقطع الثالث في هذا القطاع الأخير يتناول قضية البعث والنشور :

( أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين . وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه . قال : من يحيي العظام وهي رميم ? قل : يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم . الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون . أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ? بلى وهو الخلاق العليم . إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن . فيكون ) . .

ويبدأ هذا المقطع بمواجهة الإنسان بواقعه هو ذاته في خاصة نفسه . وهذا الواقع يصور نشأته وصيرورته مما يراه واقعا في حياته ، ويشهده بعينه وحسه مكرراً معاداً . ثم لا ينتبه إلى دلالته ، ولا يتخذ منه مصداقاً لوعد الله ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره . .

( أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) . .

فما النطفة التي لا يشك الإنسان في أنها أصله القريب ? إنها نقطة من ماء مهين ، لا قوام ولا قيمة ! نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا . . خلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير جنينا . ثم تصير هذا الإنسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل !

والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين . وما أبعد النقلة بين المنشأ والمصير ! أفهذه القدرة يستعظم الإنسان عليها أن تعيده وتنشره بعد البلى والدثور ?

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ} (77)

لما أُبطلت شبه المشركين في إشراكهم بعبادة الله وإحالتهم قدرته على البعث وتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في إنبائه بذلك إبطالاً كليّاً ، عطف الكلام إلى جانب تسفيه أقوال جزئية لزعماء المكذبين بالبعث توبيخاً لهم على وقاحتهم وكفرهم بنعمة ربهم وهم رجال من أهل مكة أحسب أنهم كانوا يموهون الدلائل ويزينون الجدال للناس ويأتون لهم بأقوال إقناعية جارية على وفق أفهام العامة ، فقيل أريد ب { الإِنسان } أُبيّ بن خلف . وقيل أريد به العاصي بنُ وائل ، وقيل أبو جهل ، وفي ذلك روايات بأسانيد ، ولعل ذلك تكرر مرات تولى كلُّ واحد من هؤلاء بعضها .

قالوا في الروايات : جاء أحد هؤلاء الثلاثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده عَظْم إنسان رميم ففتّه وذرَاه في الريح وقال : يا محمد أتزعم أن الله يُحيي هذا بعد ما أَرَمَّ ( أي بَلِيَ ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نعم يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم .

فالتعريف في { الإنْسانُ } تعريف العهد وهو الإِنسان المعيّن المعروف بهذه المقالة يومئذٍ . وقد تقدم في سورة مريم ( 66 ) أن قوله تعالى : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً } نزل في أحدِ هؤلاء ، وذُكر معهم الوليد بن المغيرة . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } في سورة القيامة } ( 3 ) .

ووجه حمل التعريف هنا على التعريف العهدي أنه لا يستقيم حملها على غير ذلك لأن جعله للجنس يقتضي أن جنس الإِنسان ينكرون البعث ، كيف وفيهم المؤمنون وأهلُ الملل ، وحملها على الاستغراق أبعد إلا أن يراد الاستغراق العُرفي وليس مثل هذا المقام من مواقعه . فأما قوله تعالى في سورة النحل ( 4 ) { : { خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين } فهو تعريف الاستغراق ، أي خلق كلَّ إنسان لأن المقام مقام الاستغراق الحقيقي .

والمراد بخَصِيمٌ في تلك الآية : أنه شديد الشكيمة بعد أن كان أصله نطفة ، فالجملة معطوفة على جملة { أو لم يروا أنَّا خلقنا لهم } [ يس : 71 ] الآية . والاستفهام كالاستفهام في الجملة المعطوفِ عليها . والرؤية هنا قلبية . وجملة { أَنَّا خَلَقْناهُ } سادّة مسدّ المفعولين كما تقدم في قوله تعالى : { أو لم يروا أنَّا خلقنا لهم مما عَمِلت أيدينا أنْعاماً } [ يس : 71 ] .

و« إذا » للمفاجأة . ووجه المفاجأة أن ذلك الإِنسان خلق ليعبد الله ويعلم ما يليق به فإذا لم يجر على ذلك فكأنه فاجأ بما لم يكن مترقباً منه مع إفادة أن الخصومة في شؤون الإِلهية كانت بما بادرَ به حين عقَل .

والخصيم فعيل مبالغة في معنى مفاعل ، أي مخاصم شديد الخصام .

والمبين : من أبان بمعنى بان ، أي ظاهر في ذلك .