ثم ذكر - سبحانه - ما عليه المشركون من جحود وغرور وعناد على سبيل التأكيد والتوبيخ فقال : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } .
أى : أن شأن هؤلاء المشركين الذين حاربوك يا محمد ، كشأن آل فرعون ومن تقدمهم من الأقوام السابقة ، كقوم نوح وقوم هود . . ، كذب ألوئك جميعا بآيات ربهم التي أوجدها - سبحانه - لهدايتهم وسعادتهم . . فكانت نتيجة ذلك أن أهلكهم - سبحانه - بسبب ما ارتكبوه من ذنوب ، وبسبب النعم في غير ما خلقت له .
{ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ } الذين زينوا له الكفر والبطر والطغيان .
{ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } أى : وكل من الأقوام المذكورين ومن على شاكلتهم في الكفر والضلال ، كانوا ظالمين لأنفسهم بكفرهم ، ولأنبيائهم بسبب محاربتهم لهم ، وإعراضهم عنهم مع أن الأنبياء ما جاءوا إلا لهدايتهم .
وجمع الضمير في { كَانُواْ } و { ظَالِمِينَ } مراعاة لمعنى { كُلٌّ } لأنها متى قطعت عن الإِضافة جاز مراعاة لفظها تارة ، ومراعاة معناها أخرى ، واختير هنا مراعاة المعنى أجل الفواصل .
قال الجمل : فإن قلت : ما الفائدة من تكرير هذه الآية مرة ثانية ؟ .
قلت : فيها فوائد منها : أن الكلام الثانى يجرى مجرى التفصيل للكلام الأول ، لأن الآية الأولى فيها ذكر أخذهم ، والثانية ذكر إغراقهم فذلك تفسير للأول .
ومنها : أنه ذكر في الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله وفى الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم ، ففى الآية إشارة إلى أنهم كفروا بآيات الله وجحدوها ، وفى الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها ، وكفرهم بها .
ومنها : أن تكرير هذه القصة للتأكيد .
وبعد ، فإن المتدبر في هذه الآيات الكريمة ، يراها تصور تصويرا واضحا سنة من سنن الله في خلقه ، وهى أنه - سبحانه - لا يسلب نعمه عن قوم إلا بسبب ذنوب اقترفوها ، وأنه - تعالى - لا ينزل عقوباته بهم إلا بعد لجاجهم في طغيانهم ، وإدبارهم عن نصح الناصحين .
ورحم الله الأستاذ الإِمام محمد عبده فقد كتب مقالا جيداً صدره بقوله تعالى : { ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ .
ومما جاء في هذا المقال قوله : تلك آيات الكتاب الحكيم ، تهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
أرشدنا - سبحانه - إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها ، ولا بادت ومحي اسمها من لوح الوجود إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها - سبحانه - على أساس الحكمة البالغة ، إن الله لا يغير ما بقوم من عز وسلطان ، ورفاعة وخفض عيش ، وأمن وراحة حتى يغير أولئك ما بأنفسهم من نور العقل ، وصحة الفكر ، وإشراق البصيرة ، والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة ، والتدبر في أحوال الذين حادوا عن صراط الله فهلكوا ، أو حل بهم الدمار ، ثم لعدولهم عن سنة العدل ، وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة ، حادوا عن الاستقامة في الرأى ، والصدق في القول ، والسلام في الصدر ، والعفة عن الشهوات ، والحمية على الحق ، والقيام بنصرته والتعاون على حمايته . . خذلوا العدل ولم يجمعوا هم على إعلاء كلمته وابتعوا الأهواءالباطلة ، وانكبوا على الشهوات الفانية . . فأخذهم بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين .
هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلى بالفضائل وجعل هلاكها ودمارها في التخلى عنها .
سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم ، ولا تتبدل بتبدل الأجيال ، كسنته - سبحانه - في الخلق والإِيجاد ، وتقدير الأرزاق وتحديد الآجال . .
( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم . كذبوا بآيات ربهم ، فأهلكناهم بذنوبهم ، وأغرقنا آل فرعون . وكل كانوا ظالمين ) .
لقد أهلكهم الله بعد التكذيب بآياته . ولم يهلكهم قبلها سبحانه - مع أنهم كانوا كافرين - لأن هذه سنته ورحمته : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) . . وهو يعبر هنا عن آل فرعون والذين من قبلهم من أمثالهم الذين كذبوا بآيات الله فأهلكهم . . بأنهم ( كانوا ظالمين ) . . مستخدماً لفظ " الظلم " بمعنى " الكفر " أو " الشرك " وهذا هو الاستعمال الغالب في القرآن . .
ولا بد أن نقف قليلاً عند نص هذه الآية :
( ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . .
إنه ، من جانب ، يقرر عدل الله في معاملة العباد ؛ فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم ، ويبدلوا سلوكهم ، ويقلبوا أوضاعهم ، ويستحقوا أن يغير ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختبار من النعمة التي لم يقدروها ولم يشكروها . . ومن الجانب الآخر يكرم هذا المخلوق الإنساني أكبر تكريم ، حين يجعل قدر الله به ينفذ ويجري عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله ؛ ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنياً على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم ، وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم . . ومن الجانب الثالث يلقي تبعة عظيمة - تقابل التكريم العظيم - على هذا الكائن . فهو يملك أن يستبقي نعمة الله عليه ويملك أن يزاد عليها ، إذا هو عرف فشكر ؛ كما يملك أن يزيل هذه النعمة عنه إذا هو أنكر وبطر ، وانحرفت نواياه فانحرفت خطاه .
وهذه الحقيقة الكبيرة تمثل جانباً من جوانب " التصور الإسلامي لحقيقة الإنسان " ؛ وعلاقة قدر الله به في هذا الوجود ؛ وعلاقته هو بهذا الكون وما يجري فيه . . ومن هذا الجانب يتبين تقدير هذا الكائن في ميزان الله ؛ وتكريمه بهذا التقدير ؛ كما تتبين فاعلية الإنسان في مصير نفسه وفي مصير الأحداث من حوله ؛ فيبدو عنصراً إيجابياً في صياغة هذا المصير - بإذن الله وقدره الذي يجري من خلال حركته وعمله ونيته وسلوكه - وتنتفي عنه تلك السلبية الذليلة التي تفرضها عليه المذاهب المادية ، التي تصوره عنصراً سلبياً إزاء الحتميات الجبارة . حتمية الاقتصاد ، وحتمية التاريخ ، وحتمية التطور . . . إلى آخر الحتميات التي ليس للكائن الإنساني إزاءها حول ولا قوة ، ولا يملك إلا الخضوع المطلق لما تفرضه عليه وهو ضائع خانع مذلول !
كذلك تصور هذه الحقيقة ذلك التلازم بين العمل والجزاء في حياة هذا الكائن ونشاطه ؛ وتصور عدل الله المطلق ، في جعل هذا التلازم سنة من سننه يجري بها قدره ، ولا يظلم فيها عبد من عبيده :
( فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ) . .
( ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )
تكرير لقوله : { كدأب آل فرعون } المذكور قبله لقصد التأكيد والتسميع ، تقرير للإنذار والتهديد ، وخولف بين الجملتين تفنّناً في الأسلوب ، وزيادة للفائدة ، بذكر التكذيب هنا بعد ذكر الكفر هناك ، وهما سببان للأخذ والإهلاك كما قدّمناه آنفاً .
وذكر وصف الربوبية هنا دون الاسم العلم لزيادة تفظيع تكذيبهم ، لأنّ الاجتراء على الله مع ملاحظة كونه ربّاً للمجترىء ، يزيد جرَاءته قبحاً لإشعاره بأنّها جراءة في موضع الشكر ، لأنّ الربّ يستحقّ الشكر .
وعبر بالإهلاك عوض الأخذ المتقدّم ذكره ليفسّر الأخذ بأنّه آل إلى الإهلاك ، وزيد الإهلاك بياناً بالنسبة إلى آل فرعون بأنّه إهلاك الغرق .
وتنوين { كل } للتعويض عن المضاف إليه ، أي : وكل المذكورين ، أي آل فرعون والذين من قبلهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.