ثم بعد الحديث الطويل عن النفاق والمنافقين ، أخذت السورة الكريمة ، في الحديث عن طوائف أخرى منها الصالح ، ومنها غير الصالح ، وقد بدأت بالحديث عن الأعراب سكان البادية ، فقال - تعالى - : { الأعراب أَشَدُّ . . . . غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قال صاحب المنار : قوله ، سبحانه : { الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } . بيان مستأنف لحال سكان البادية من المنافقين ، لأنه مما يسأل عنه بعد ما تقدم في منافقى الحضر من سكان المدينة وغيرها من القرى .
والأعراب : اسم جنس لبدو العرب ، واحده : أعرابى ، والأنثى أعرابية ، والجمع أعاريب ، والعرب : اسم جنس لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة ، بدوه وحضره ، واحده : عربى .
والمراد بالأعراب هنا : جنسهم لا كل واحد منهم ، بدليل أن الله . تعالى . قد ذم من يستحق الذم منهم ، ومدح من يستحق المدح منهم ، فالآية الكريمة من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده .
وقد بدأ ، سبحانه ، بذكر المنافقين من الأعراب قبل المؤمنين منهم ، إلحاقا لهم بمنافقى المدينة الذين تحدثت السورة عنهم قبل ذلك مباشرة حديثاً مستفيضاً ، وبهذا الترتيب الحكيم تكون السورة الكريمة قد واصلت الحديث عن منافقى الحضر والبدو .
والمعنى : " الأعراب " سكان البادية { أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } من الكفار والمنافقين الذين يسكنون الحضر والقرى .
وذلك ، لأن ظروف حياتهم البدوية ، وما يصاحبها من عزلة وكفر في الصحراء ، وخشونة في الحياة . . . كل ذلك جعلهم أقسى قلوباً ، وأجفى قولا ، وأغلظ طبعا ، وأبعد عن سماع ما يهدى نفوسهم إلى الخير من غيرهم سكان المدن .
وقوله : { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ } معطوف على ما قبله لتعديد صفاتهم الذميمة .
قال القرطبى : قوله : " وأجدر " عطف على " أشد " ومعناه : أخلق ، وأحق ، يقال : فلان جدير بكذا ، أى : خليق به . وأنت جدير أن تفعل كذا ، والجمع جدراء وجديرون ، وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء فقوله : هو أجدر بكذا ، أى : أقرب إليه وأحق به .
والمعنى : الأعراب أشد كفرا ونفاقا من أهل الحضر الكفار والمنافقين ، وهم كذلك أحق وأخلق من أهل الحضر بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، بسبب ابتعادهم عن مجالس رسول الله . صلى الله عليه وسلم . وعدم مشاهدتهم لما ينزل عليه . صلى الله عليه وسلم . من شرائع وأداب وأحكام .
وقوله : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أى : " عليم " بأحوال عباده الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه شئ من صفاتهم وطباعهم " وحكيم " في صنعه بهم ، وفى حكمه عليهم ، وفيما يشرعه لهم من أحكام ، وفيما يجازيهم به من ثواب أو عقاب .
هذا ، وقد ذكر المفسرون هنا أمثلة متعدد لجفاء الأعراب وجهلهم ، ومن ذلك قول الإِمام ابن كثير :
قال الأعمش عن ابراهيم قال : جلس أعرابى إلى زيد بن صومان ، وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم " نهاوند " فقال الأعرابى : والله إن حديثك ليعجبنى وإن يدك لتريبنى ! ! فقال زيد : وما يريبك من يدى ؟ إنها الشمال ! ! فقال الأعرابى : والله ما أدرى اليمين يقطعون أو الشماء ! ! فقال زيد : صدق الله إذ يقول : { الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ } .
وورى الأَمام عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن " .
وورى الإِمام مسلم " عن عائشة قال : قدم ناس من الاعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أتقبلون صبيانكم ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - نعم . فقالوا : لكنا والله ما نقبل ! ! فقال - صلى الله عليه وسلم - " وما أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة " " .
وفي ضوء هذا البيان المجمل نملك المضي مع نصوص هذا الدرس تفصيلاً :
( الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله ، واللّه عليم حكيم . ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر ، عليهم دائرة السوء ، واللّه سميع عليم . ومن الأعراب من يؤمن باللّه واليوم الآخر ، ويتخذ ما ينفق قربات عند اللّه وصلوات الرسول . ألا إنها قربة لهم ، سيدخلهم اللّه في رحمته ، إن اللّه غفور رحيم ) . .
بدأ بتصنيف الأعراب - وهم البدو - وقد كانت قبائل منهم حول المدينة ، وكانت لهم أدوار في الهجوم على دار الإسلام في المدينة - قبل إسلامهم - فلما أسلموا كانوا بوجه عام داخلين في الفئتين اللتين ورد وصفهما في هذه الآيات .
وقد بدأ الحديث عنهما بتقرير قاعدة كلية عن طبيعة الأعراب :
( الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله ، واللّه عليم حكيم ) .
والتعبير بهذا العموم يعطي وصفاً ثابتاً متعلقاً بالبدو وبالبداوة . فالشأن في البدو أن يكونوا أشد كفراً ونفاقاً ، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله .
والجدارة بعدم العلم بما أنزل اللّه على رسوله ناشئة من ظروف حياتهم ، وما تنشئه في طباعهم من جفوة ، ومن بعد عن المعرفة وعن الوقوف عند الحدود ، ومن مادية حسية تجعل القيم المادية هي السائدة . وإن كان الإيمان يعدل من هذه الطباع ، ويرفع من تلك القيم ، ويصلهم بالأفق الوضيء المرتفع على الحسية .
وقد وردت روايات كثيرة عن جفوة الأعراب . . ومما أورده ابن كثير في التفسير :
" قال الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان ، وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم " نهاوند " ، فقال الأعرابي : واللّه إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني ! فقال زيد : وما يريبك من يدي ? إنها الشمال ! فقال الأعرابي : واللّه ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال ! فقال زيد ابن صوحان : صدق اللّه ورسوله : ( الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله ) " .
" وقال الإمام أحمد : حدثنا عبدالرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن وهب بن منبه ، عن ابن عباس ، عن رسول اللّه - [ ص ] - قال : " من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن " . . "
ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث اللّه منهم رسولاً ، وإنما كانت البعثة من أهل القرى كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ) .
" ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول اللّه - [ ص ] - فرد عليه أضعافها حتى رضي - ، قال : " لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي " لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن : مكة والطائف والمدينة واليمن ، فهم ألطف أخلاقاً من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء .
" قال حديث مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا : حدثنا أبو أسامة وابن نمير ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قدم ناس من الأعراب على رسول اللّه - [ ص ] - فقالوا :
أتقبلون صبيانكم ? قالوا : نعم ! قالوا : لكنا واللّه ما نقبل ! فقال رسول اللّه - [ ص ] - " وما أملك إن كان اللّه نزع منكم الرحمة ? " " . .
وكثير من الروايات يكشف عن طابع الجفوة والفظاظة في نفوس الأعراب . حتى بعد الإسلام . فلا جرم يكون الشأن فيهم أن يكونوا أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله ، لطول ما طبعتهم البداوة بالجفوة والغلظة عندما يقهرون غيرهم ؛ أو بالنفاق والالتواء عندما يقهرهم غيرهم ؛ وبالاعتداء وعدم الوقوف عند الحدود بسبب مقتضيات حياتهم في البادية
عليم بأحوال عباده وصفاتهم وطباعهم . حكيم في توزيع المواهب والخصائص والاستعدادات ، وتنويع الأجناس والشعوب والبيئات .
وقوله { الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله } الآية ، { الأعراب } لفظة عامة ومعناها الخصوص فيمن استثناه الله عز وجل ، وهذا معلوم بالوجود وكيف كان الأمر ، وإنما انطلق عليهم هذا الوصف بحسب بعدهم عن الحواضر ومواضع العلم والأحكام والشرع ، وهذه الآية إنما نزلت في منافقين كانوا في البوادي ، ولا محالة أن خوفهم هناك أقل من خوف منافقي المدينة ، فألسنتهم لذلك مطلقة ونفاقهم أنجم{[5841]} ، وأسند الطبري أن زيد بن صوحان{[5842]} كان يحدث أصحابه بالعلم وعنده أعرابي وكان زيد قد أصيبت يده اليسرى يوم نهاوند{[5843]} فقال الأعرابي والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني وقال زيد : وما يريبك من يدي وهي الشمال ؟ فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين تقطعون أم الشمال ؟ فقال زيد صدق الله { الأعراب أشد كفارً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } ، { و أجدر } معناه أحرى وأقمن ، و «الحدود » هنا السنن والأحكام ومعالم الشريعة .