التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٖ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡرَـٰٓءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُ ٱلرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَبُكِيّٗا۩} (58)

ثم تسوق السورة الكريمة بعد ذلك موازنة بين هؤلاء الأخيار ، وبين من جاءوا بعدهم من أقوامهم الذين اضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، وتفتح السورة باب التوبة ليدخله بصدق وإخلاص المخطئون ، حتى يكفر الله - تعالى - عنهم ما فرط منهم ، قال - تعالى - : { أولئك الذين . . . } .

اسم الإشارة فى قوله : { أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم . . } يعود إلى الأنبياء المذكورين فى هذه السورة . وهم عشرة أولهم فى الذكر زكريا وآخرهم إدريس .

قال القرطبى : " قوله - تعالى - { أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ } يريد إدريس وحده { وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } يريد إبراهيم وحده { وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ } يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب { وَ } من ذرية { إِسْرَائِيلَ } يريد موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى فكان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم ، ولإبراهيم شرف القرب من نوح ، ولإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، شرف القرب من إبراهيم " .

وقوله : { وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ } معطوف على قوله { مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ } ومن للتبعيض .

أى : ومن جملة من أنعم الله عليهم ، أولئك الذين هديناهم إلى طريق الحق واجتبيناهم واخترناهم لحمل رسالتنا ووحينا .

فأنت ترى أن الله - تعالى - قد جمع لهؤلاء المنعم عليهم جملة من المزايا منها : أعمالهم الصالحة ، ومناقبهم الحميدة التى سبق الحديث عنها ، ومنها : كونهم من تسل هؤلاء المصطفين الأخيار ، ومنها أنهم ممن هداهم الله - تعالى - واصطفاهم لحمل رسالته .

وقد بين - سبحانه - فى سورة النساء من أنعم عليهم بصورة أكثر شمولاً فقال : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } وقوله - تعالى - : { إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } بيان لرقة مشاعرهم ، وشدة تأثرهم عند سماع آيات الله - تعالى - .

فالجملة الكريمة استئناف مسوق لبيان عظم خشيتهم من الله - تعالى - أو هى خبر لاسم الإشارة { أولئك } و { سُجَّداً وَبُكِيّاً } جمع ساجد وباك .

أى : أولئك الذين أنعم الله - تعالى - عليهم ، من صفاتهم أنهم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن ، المتضمنة لتمجيده وتعظيمته وحججه . . . خروا على جباههم ساجدين وباكين . وسقطوا خاضعين خاشعين خوفاً ورجاء ، وتعظيماً وتمجيداً لله رب العالمين .

وجمع - سبحانه - بين السجود والبكاء بالنسبة لهم ، للإشعار بأنهم مع تعظيمهم الشديد لمقام ربهم ، فهم أصحاب قلوب رقيقة ، وعواطف جياشة بالخوف من الله - تعالى - .

وفى معنى هذه الجملة الكريمة وردت آيات كثيرة ، منه قوله - تعالى - : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } وقوله - سبحانه - : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين } فهذه الآيات الكريمة تدل على أن من صفات المؤمنين الصادقين ، أنهم يتأثرون تأثراً عظيماً عند سماعهم لكلام الله - تعالى - ، تأثراً يجعلهم يبكون ويسجدون وتقشعر جلودهم ، وتوجل قلوبهم ، وتلين نفوسهم .

قال ابن كثير - رحمه الله - : " قوله - تعالى - : { إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } أى : إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعاً واستكانة وشكراً على ما هم فيه من نعم . . . فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم ، واتباعاً لمنوالهم وقرأ عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - هذه الآية فسجد وقال : هذا السجود فأين البكار " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٖ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡرَـٰٓءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُ ٱلرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَبُكِيّٗا۩} (58)

يستعرض السياق أولئك الأنبياء ، ليوازن بين هذا الرعيل من المؤمنين الأتقياء وبين الذين خلفوهم سواء من مشركي العرب أو من مشركي بني إسرائيل . . فإذا المفارقة صارخة والمسافة شاسعة والهوة عميقة والفارق بعيد بين السلف والخلف :

( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم ، وممن حملنا مع نوح ، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل ، وممن هدينا واجتبينا . إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا . فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا . . . ) .

والسياق يقف في هذا الاستعراض عند المعالم البارزة في صفحة النبوة في تاريخ البشرية ( من ذرية آدم ) . ( وممن حملنا مع نوح ) . ( ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل ) . فآدم يشمل الجميع ، ونوح يشمل من بعده ، وإبراهيم يشمل فرعي النبوة الكبيرين : ويعقوب يشمل شجرة بني إسرائيل . وإسماعيل وإليه ينتسب العرب ومنهم خاتم النبيين .

أولئك النبيون ومعهم من هدى الله واجتبى من الصالحين من ذريتهم . . صفتهم البارزة : ( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ) . . فهم أتقياء شديدو الحساسية بالله ؛ ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته ، فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر ، فتفيض عيونهم بالدموع ويخرون سجدا وبكيا . .

أولئك الأتقياء الحساسون الذين تفيض عيونهم بالدمع وتخشع قلوبهم لذكر الله . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٖ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡرَـٰٓءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُ ٱلرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَبُكِيّٗا۩} (58)

{ أولئك } إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس عليهم السلام . { الذين أنعم الله عليهم } بأنواع النعم الدينية والدنيوية { من النبيين } بيان للموصول { من ذرية آدم } بدل منه بإعادة الجار ، ويجوز أن تكون { من } فيه للتبعيض لأن المنعم عليهم أعم من الأنبياء وأخص من الذرية . { وممن حملنا مع نوح } أي ومن ذرية من حملنا خصوصا ، وهم من عدا إدريس فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح . { ومن ذرية إبراهيم } الباقون . { وإسرائيل } عطف على { إبراهيم } أي ومن ذرية إسرائيل ، وكان منهم موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى ، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية . { وممن هدينا } ومن جملة من هديناهم إلى الحق . { واجتنبينا } للنبوة والكرامة . { إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا } خبر ل { أولئك } إن جعلت الموصول صفته ، واستئناف إن جعلته خبره لبيان خشيتهم من الله وإخباتهم له مع ما لهم من علو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله تعالى . وعن النبي عليه الصلاة والسلام " اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكو فتباكوا " والبكي جمع باك كالسجود في جمع ساجد . وقرىء " يتلى " بالياء لأن التأنيث غير حقيقي ، وقرأ حمزة والكسائي " بكيا " بكسر الباء .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٖ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡرَـٰٓءِيلَ وَمِمَّنۡ هَدَيۡنَا وَٱجۡتَبَيۡنَآۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُ ٱلرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَبُكِيّٗا۩} (58)

الجملة استئناف ابتدائي ، واسم الإشارة عائد إلى المذكورين من قوله { ذكر رحمة ربك عبده زكرياء } [ مريم : 2 ] إلى هنا . والإتيان به دون الضمير للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر مع المشار إليهم من الأوصاف ، أي كانوا أحرياء بنعمة الله عليهم وكونهم في عداد المهديين المجتبيْن وخليقين بمحبتهم لله تعالى وتعظيمهم إياه .

والمذكور بعد اسم الإشارة هو مضمون قوله { أنعم الله عليهم } وقوله { وممّن هدينا واجتبينا } ، فإن ذلك أحسن جزاء على ما قدموه من الأعمال ، ومن أعطوه من مزايا النبوءة والصديقية ونحوهما . وتلك وإن كانت نعماً وهداية واجتباء فقد زادت هذه الآية بإسناد تلك العطايا إلى الله تعالى تشريفاً لها ، فكان ذلك التشريف هو الجزاء عليها إذ لا أزيد من المجازَى عليه إلاّ تشريفه .

وقرأ الجمهور { من النّبييّن } بياءين بعد الموحدة . وقرأه نافع وحده بهمزة بعد الموحدة .

وجملة { إذَا تتلى عَليهم ءَاياتُ الرَّحْمانِ } مستأنفة دالة على شكرهم نعم الله عليهم وتقريبه إياهم بالخضوع له بالسجود عند تلاوة آياته وبالبكاء .

والمراد به البكاء الناشىء عن انفعال النفس انفعالاً مختلطاً من التعظيم والخوف .

و { سُجداً } جمع ساجد . و{ بُكيّاً } جمع بَاك . والأول بوزن فُعّل مثل عُذَّل ، والثاني وزنه فعُول جمع فاعل مثل قوم قعود ، وهو يائي لأنّ فعله بكى يبكي ، فأصله : بُكُويٌ . فلما اجتمع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وحركت عين الكلمة بحركة مناسبة للياء . وهذا الوزن سماعي في جمع فاعل ومثله .

وهذه الآية من مواضع سجود القرآن المروية عن النبي اقتداء بأولئك الأنبياء في السجود عند تلاوة القرآن ، فهم سجدوا كثيراً عند تلاوة آيات الله التي أنزلت عليهم ، ونحن نسجد اقتداء بهم عند تلاوة الآيات التي أنزلت إلينا . وأثنت على سجودهم قصداً للتشبه بهم بقدر الطاقة حين نحن متلبسون بذكر صنيعهم .

وقد سجد النبي عند هذه الآية وسنّ ذلك لأمته .