ثم حكى القرآن بعد ذلك مظهرا آخر من مظاهر غرور قارون وبطره فقال : { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } والجملة الكريمة معطوفة على قوله قبل ذلك { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } وما بينهما اعتراض . والزينة : اسم ما يتزين به الإنسان من حلى أو ثياب أو ما يشبهها .
أى : قال ما قال قارون على سيبل الفخر والخيلاء ، ولم يكتف بهذا القول بل خرج على قومه فى زينة عظيمة . وأبهة فخمة ، فيها ما فيها من ألوان الرياش والخدم .
وقد ذكر بعض المفسرين روايات متعددة ، فى زينته التى خرج فيها ، رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها ، ويكفى أن نعلم أنها زينة فخمة ، لأنه لم يرد نص فى تفاصيلها .
وأمام هذه الزينة الفخمة التى خرج فيها قارون ، أنقسم الناس إلى فريقين ، فريق استهوته هذه الزينة ، وتمنى أن يكون له مثلها ، وقد عبر القرآن عن هذا الفريق بقوله : { قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } .
أى : خرج قارون على قومه فى زينته ، فما كان من الذين يريدون الحياة الدنيا وزخارفها من قومه ، إلا أن قالوا على سبيل التمنى والانبهار . . . يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون من مال وزينة ورياش ، إنه لذو حظ عظيم ، ونصيب ضخم ، من متاع الدنيا وزينتها .
هكذا قال الذين يريدون الحياة الدنيا . وهم الفريق الأول من قوم قارون .
ذلك كان المشهد الأول من مشاهد القصة ، يتجلى فيه البغي والتطاول ، والإعراض عن النصح ، والتعالي على العظة ، والإصرار على الفساد ، والاغترار بالمال ، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران .
ثم يجيء المشهد الثاني حين يخرج قارون بزينته على قومه ، فتطير لها قلوب فريق منهم ، وتتهاوى لها نفوسهم ، ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون ، ويحسون أنه أوتي حظا عظيما يتشهاه المحرومون . ذلك على حين يستيقظ الإيمان في قلوب فريق منهم فيعتزون به على فتنة المال وزينة قارون ، ويذكرون إخوانهم المبهورين المأخوذين ، في ثقة وفي يقين :
فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا : يا ليت لنا مثلما أوتي قارون . إنه لذو حظ عظيم . وقال الذين أوتوا العلم : ويلكم ! ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ، ولا يلقاها إلا الصابرون .
وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت ، ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان ، والرجاء فيما عند الله ، والاعتزاز بثواب الله . والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان :
قال الذين يريدون الحياة الدنيا : ياليت لنا مثل ما أوتي قارون . إنه لذو حظ عظيم . .
وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب ، وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا ، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم مها ؛ فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته ? ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة ? من مال أو منصب أو جاه . ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى ، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع ، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه ، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه ، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها .
يقول تعالى مخبرًا عن قارون : إنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة ، وتجمل باهر ، من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه ، فلما رآه مَنْ يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زُخرفها وزينتها ، تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي ، قالوا : { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي : ذو حظ وافر من الدنيا .
عطف على جملة { وآتيناه من الكنوز } [ القصص : 76 ] إلى آخرها مع ما عطف عليها وتعلق بها ، فدلت الفاء على أن خروجه بين قومه في زينته بعد ذلك كله كان من أجل أنه لم يقصر عن شيء من سيرته ولم يتعظ بتلك المواعظ ولا زمناً قصيراً بل أعقبها بخروجه هذه الخرجة المليئة صلفاً وازدهاء . فالتقدير : قال إنما أوتيته على علم عندي فخرج ، أي رفض الموعظة بقوله وفعله . وتعدية ( خرج ) بحرف { على } لتضمينه معنى النزول إشارة إلى أنه خروج متعال مترفِّع ، و { في زينته } حال من ضمير ( خرج ) .
والزينة : ما به جمال الشيء والتباهي به من الثياب والطيب والمراكب والسلاح والخدم ، وتقدم قوله تعالى { ولا يُبْدين زينتهن } في سورة [ النور : 31 ] . وإنما فصلت جملة { قال الذين يريدون الحياة الدنيا } ولم تعطف لأنها تتنزل منزلة بدل الاشتمال لما اشتملت عليه الزينة من أنها مما يتمناه الراغبون في الدنيا . وذلك جامع لأحوال الرفاهية وعلى أخصر وجه لأن الذين يريدون الحياة الدنيا لهم أميال مختلفة ورغبات متفاوتة فكل يتمنى أمنية مما تلبس به قارون من الزينة ، فحصل هذا المعنى مع حصول الأخبار عن انقسام قومه إلى مغترين بالزخارف العاجلة عن غير علم ، وإلى علماء يؤثرون الآجل على العاجل ، ولو عطفت جملة { قال الذين يريدون } بالواو وبالفاء لفاتت هذه الخصوصية البليغة فصارت الجملة إما خبراً من جملة الأخبار عن حال قومه ، أو جزء خبر من قصته .
و { الذين يريدون الحياة الدنيا } لما قوبلوا ب { الذين أوتوا العلم } [ القصص : 80 ] كان المعنيُّ بهم عامة الناس وضعفاء اليقين الذين تلهيهم زخارف الدنيا عما يكون في مطاويها من سوء العواقب فتقصر بصائرهم عن التدبر إذا رأوا زينة الدنيا فيتلهفون عليها ولا يتمنون غير حصولها فهؤلاء وإن كانوا مؤمنين إلا أن إيمانهم ضعيف فلذلك عظم في عيونهم ما عليه قارون من البذخ فقالوا { إنه لذو حظ عظيم } أي إنه لذو بخت وسعادة .
وأصل الحظ : القِسم الذي يعطاه المقسوم له عند العطاء ، وأريد به هنا ما قسم له من نعيم الدنيا .
والتوكيد في قوله { إنه لذو حظ عظيم } كناية عن التعجب حتى كأن السامع ينكر حظه فيؤكده المتكلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فخرج} قارون {على قومه في زينته} قومه بني إسرائيل، الزينة، يعني: الشارة الحسنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
..."قالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ الحَياةَ الدّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ" يقول تعالى ذكره: قال الذين يريدون زينة الحياة الدنيا من قوم قارون: يا ليتنا أُعطينا مثل ما أعطى قارون من زينتها.
"إنّهُ لَذُو حَظَ عَظِيمٍ" يقول: إن قارون لذو نصيب من الدنيا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فلما رآه الذين يريدون الحياة الدنيا من الكفار والمنافقين والضعيفي الإيمان بما للمؤمنين عند الله من ثواب الجنة قالوا:"يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون"
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تمنَّى مَنْ رآه مِمَّن كان في حُبِّ الدنيا ساواه أَنْ يُعْطِيَه اللَّهُ مِثْلَ ما أعطاه.
أما قوله: {فخرج على قومه في زينته} فيدل على أنه خرج بأظهر زينة وأكملها وليس في القرآن إلا هذا القدر، إلا أن الناس ذكروا وجوها مختلفة في كيفية تلك الزينة... والأولى ترك هذه التقريرات لأنها متعارضة، ثم إن الناس لما رأوه على تلك الزينة، قال من كان منهم يرغب في الدنيا {يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون} من هذه الأمور والأموال، والراغبون يحتمل أن يكونوا من الكفار وأن يكونوا من المسلمين الذين يحبون الدنيا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولهذا سبب وعقب عن وعظهم الحسن وجوابه الخشن قوله سبحانه دليلاً على إجرامه، وطغيانه في آثامه: {فخرج على قومه} أي الذين نصحوه في الإقتصاد في شأنه، والإكثار في الجود على إخوانه، ثم ذكر حاله معظماً لها بقوله: {في زينته} أي التي تناسب ما ذكرنا من أمواله، وتعاظمه في كماله من أفعاله وأقوله.
ولما كان كأنه قيل: ما قال قومه؟ قيل: {قال الذين يريدون} أي هم بحيث يتجدد منهم أن يريدوا {الحياة الدنيا} منهم لسفول الهمم وقصور النظر على الفاني، لكونهم أهل جهل وإن كان قولهم من باب الغبطة لا من الحسد الذي هو تمني زوال نعمة المحسود: {يا ليت لنا} أي نتمنى تمنياً عظيماً أن نؤت من أيّ مؤت كان وعلى أيّ وجه كان {مثل ما أوتي قارون} من هذه الزينة وما تسببت عنه من العلم، حتى لا نزال أصحاب أموال، ثم عظموها بقولهم مؤكدين لعلمهم أن من يريد الآخرة ينكر عليهم: {إنه لذو حظ} أي نصيب وبخت في الدنيا {عظيم} بما أوتيه من العلم الذي كان سبباً له إلى جميع هذا المال.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
المعنى الجملي: بعد أن ذكر فيما سلف بغي قارون وعتوه وجبروته، وكثرة ما أوتيه من المال الذي تنوء به العصبة أولوا القوة -أردف ذلك تفصيل بعض مظاهر بغيه وكبريائه، فذكر أنه خرج على قومه، وهو في أبهى حليه وحلله، والعدد العديد من أعوانه وحشمه، قصدا للتعالي على العشيرة، وأبناء البلاد، وفي ذلك كسر للقلوب، وإذلال للنفوس، وتفريق للكلمة، فلا تربطهم رابطة، ولا تجمعهم جامعة، فيذلون في الدنيا بانقضاض الأعداء عليهم، وتفريقهم شذر مذر، وقد غرّت هذه المظاهر بعض الجهال الذين لا همّ لهم إلا زخرف الحياة وزينتها، فتمنوا أن يكون لهم مثلها، فرد عليهم من وفقهم الله لهدايته، بأن ما عنده من النعيم لمن اتقى خير مما أوتي قارون، ولا يناله إلا من صبر على الطاعات، واجتنب المعاصي، ثم أعقب ذلك بذكر ما آل إليه أمره من خسف الأرض به وبداره، ولم يجد معينا ينصره ويدفع العذاب عنه، وقد انقلب حال المتمنين المعجبين بحاله إلى متعجبين مما حل به، قائلين: إن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده؛ لا لفضل منزلته عنده وكرامته لديه كما بسط لقارون ويضيق على من يشاء، لا لهوانه عليه ولا لسخط عمله، ولولا أن تفضل علينا فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا الأرض...
وفي هذا تحذير لنا أيما تحذير، فكثير ممن يظهرون النعم، إنما يريدون التعالي والتفاخر، وكم ممن يقيم الزينات، أو يصنع الولائم لعرس أو مأتم، لا يريد بذلك إلا إظهار ثرائه، وسعة ماله بين عشيرته وبني جلدته، فيكون قارون زمانه، وتكون عاقبته الخسف لما أوتيه من مال، ويذهب الله ثراءه ويجعله عبرة لمن اعتبر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك كان المشهد الأول من مشاهد القصة، يتجلى فيه البغي والتطاول، والإعراض عن النصح، والتعالي على العظة، والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.
ثم يجيء المشهد الثاني حين يخرج قارون بزينته على قومه، فتطير لها قلوب فريق منهم، وتتهاوى لها نفوسهم، ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون، ويحسون أنه أوتي حظا عظيما يتشهاه المحرومون. ذلك على حين يستيقظ الإيمان في قلوب فريق منهم فيعتزون به على فتنة المال وزينة قارون، ويذكرون إخوانهم المبهورين المأخوذين، في ثقة وفي يقين:
فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا: يا ليت لنا مثلما أوتي قارون. إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم! ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا، ولا يلقاها إلا الصابرون.
وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت، ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان، والرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثواب الله. والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان:
قال الذين يريدون الحياة الدنيا: ياليت لنا مثل ما أوتي قارون. إنه لذو حظ عظيم..
وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب، وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم مها؛ فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته؟ ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة؟ من مال أو منصب أو جاه. ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فدلت الفاء على أن خروجه بين قومه في زينته بعد ذلك كله كان من أجل أنه لم يقصر عن شيء من سيرته ولم يتعظ بتلك المواعظ ولا زمناً قصيراً بل أعقبها بخروجه هذه الخرجة المليئة صلفاً وازدهاء. فالتقدير: قال إنما أوتيته على علم عندي فخرج، أي رفض الموعظة بقوله وفعله. وتعدية (خرج) بحرف {على} لتضمينه معنى النزول إشارة إلى أنه خروج متعال مترفِّع،...
{إنه لذو حظ عظيم} أي إنه لذو بخت وسعادة. وأصل الحظ: القِسم الذي يعطاه المقسوم له عند العطاء، وأريد به هنا ما قسم له من نعيم الدنيا. والتوكيد في قوله {إنه لذو حظ عظيم} كناية عن التعجب حتى كأن السامع ينكر حظه فيؤكده المتكلم...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{فخرج على قومه في زينته} أي خرج على قومه مختالا فخورا في زينة فاخرة جاوزت الحدود، وتبرج أثيم فاق كل معهود، الأمر الذي فتن به ضعفاء النفوس والعقول من قومه، فأخذوا يتمنون على الله أن يصبحوا مثل قارون ثروة ومالا، جاهلين أن الثروة التي لا يعترف صاحبها بفضل الله، ولا يؤدي عنها حقوق الله، كثروة قارون، إنما تجر على صاحبها عقابا ووبالا.