ثم بين - سبحانه - أن الدرجات إنما هى على حسب الأعمال فقال - تعالى - { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } أى : ولكل من المكلفين جناً كانوا أو إنساً درجات أى منازل ومراتب { مِّمَّا عَمِلُواْ } أى : من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم إذ الجزاء من جنس العمل والعمل متروك للناس يتسابقون فيه ، والجزاء ينتظرهم عدلا لا ظلم فيه .
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } بل هو عالم بأعمالهم ومحصيها عليهم ، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء .
وقال : وقوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } أي : ولكل عامل من طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها ، ويثيبه بها ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر .
قلت : ويحتمل أن يعود قوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } [ أي ]{[11237]} من كافري الجن والإنس ، أي : ولكل درجة في النار بحسبه ، كقوله [ تعالى ]{[11238]} { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ] }{[11239]} [ الأعراف : 38 ] ، وقوله : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] .
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } قال ابن جرير : أي وكل ذلك من عملهم ، يا محمد ، بعلم من ربك ، يحصيها ويثبتها لهم عنده ، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه .
وقوله تعالى : { ولكل درجات } الآية إخبار من الله عز وجل أن المؤمنين في الآخرة على درجات من التفاضل بحسب أعمالهم وتفضل الله عليهم ، والمشركين أيضاً على درجات من العذاب .
قال القاضي أبو محمد : ولكن كل مؤمن قد رضي بما أعطي غاية الرضى ، وقرأت الجماعة سوى ابن عامر «يعملون » على لفظ كل ، وقرأ ابن عامر وحده «تعملون » على المخاطبة بالتاء .
احتراس على قوله : { ذلك أن لم يكن ربّك مهلك القرى بظلم } [ الأنعام : 131 ] للتنبيه على أنّ الصّالحين من أهل القرى الغالببِ على أهلها الشركُ والظّلم لا يُحرمون جزاء صلاحهم .
والتّنوين في : { ولكل } عوض عن المضاف إليه : أي ولكلّهم ، أي كلّ أهل القرى المهلَكة درجات . يعني أنّ أهلها تتفاوت أحوالهم في الآخرة . فالمؤمنون منهم لا يضاع إيمانهم . والكافرون يحشرون إلى العذاب في الآخرة . بعد أن عُذّبوا في الدّنيا . فالله قد ينجي المؤمنين من أهل القُرى قبل نزول العذاب . فتلك درجة نالوها في الدّنيا ، وهي درجة إظهار عناية الله بهم ، وتُرفع درجتهم في الآخرة . والكافرون يحيق بهم عذاب الإهلاك ثمّ يصيرون إلى عذاب الآخرة . وقد تهلك القرية بمؤمنيها ثمّ يصيرون إلى النّعيم فيظهر تفاوت درجاتهم في الآخرة ، وهذه حالة أخرى وهي المراد بقوله تعالى : { واتَّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة } [ الأنفال : 25 ] روى البخاري ، ومسلم ، عن ابن عمر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذَا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذابُ من كان فيهم ثمّ بُعثوا على أعمالهم " . وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند البيهقي في « الشُعب » مرفوعاً أنّ الله تعالى إذا أنزل سطوته بأهللِ نقمته وفيهم الصّالحون قُبضوا معهم ثمّ بُعثوا على نياتهم وأعمالهم ، صحّحه ابن حِبّان . وفي « صحيح البخاري » ، من حديث زينب بنت جحش أمّ المؤمنين رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويلٌ للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من رَدْم ياجوج وماجوج هكذا وعقد تسعين ( أي عقد أصبعين بعلامة تسعين في الحساب المعبر عنه بالعُقَد بضم العين وفتح القاف ) قِيل : أنهلك وفينا الصّالحون ، قال : نَعَم إذا كثر الخُبْث " .
والدّرجات هي ما يرتقى عليه من أسفل إلى أعلى ، في سُلم أو بناء ، وإن قصد بها النّزول إلى محلّ منخفض من جبّ أو نحوه فهي دركات ، ولذلك قال تعالى : { يرفع اللَّهُ الذين آمنوا منكم والذينَ أوتوا العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] وقال : { إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النّار } [ النساء : 145 ] ولمّا كان لفظ ( كلّ ) مراداً به جميع أهل القرية ، وأتى بلفظ { الدّرجات } كان إيماء إلى تغليب حال المؤمنين لِتَطمئنّ نفوسُ المسلمين من أهل مكّة بأنّهم لا بأس عليهم من عذاب مشركيها ، ففيه إيماء إلى أنّ الله منجيهم من العذاب : في الدّنيا بالهجرة ، وفي الآخرة بحشرهم على أعمالهم ونياتهم لأنَّهم لم يقصروا في الإنكار على المشركين ، ففي هذه الآية إيذان بأنَّهم سيخرجون من القرية الّتي حقّ على أهلها العذاب ، فإنّ الله أصاب أهل مكّة بالجوع والخوف ثمّ بالغزو بعد أن أنجى رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
وقدْ عُلم من الدّرجات أنّ أسافلها دركات فغلب درجات لنكتة الإشعار ببشارة المؤمنين بعد نِذارة المشركين . و { مِن } في قوله { مما عملوا } تعليلية ، أي من أعمالهم أي بسبب تفاوت أعمالهم .
وقوله : { وما ربك بغافل عما يعملون } خطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم
وقرأ الجمهور : { يعلمون } بياء الغيبة فيعود الضّمير إلى أهل القرى ، والمقصود مشركو مكّة ، فهو للتّسليّة والتّطمين لئلا يستبطىء وعد الله بالنَّصر ، وهو تعريض بالوعيد للمشركين من باب : واسمعي يا جارة . وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب ، فالخطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين ، فهو وعد بالجزاء على صالح أعمالهم ، ترشيحاً للتّعبير بالدّرجات حسبما قدّمناه ، ليكون سَلاً لهم من وعيد أهل القرى أصحاب الظّلم ، وكلتا القراءتين مراد الله تعالى فيما أحسب .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولكلّ عامل في طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله، يبلغه الله إياها، ويثيبه بها، إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا. "وَما رَبّكَ بغافلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ "يقول جلّ ثناؤه: وكلّ ذلك من عملهم يا محمد بعلم من ربك يحصيها ويثبتها لهم عنده ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {وَلِكُلٍ دَرَجَاتٌ ممّا عَمِلُوا} معناه ولكل عامل بطاعة الله أو معصيته درجات، يعني منازل، وإنما سُمِّيت درجات لتفاضلها كتفاضل الدَرَجِ في الارتفاع والانحطاط. وفيها وجهان: أحدهما: أن المقصود بها الأعمال المتفاضلة. والثاني: أن المقصور بها الجزاء المتفاضل. ويحتمل هذا التفاضل بالدرجات على أهل الجنة، وأهل النار، لأن أهل النار يَتفاضلون في العقاب بحسب تفاضلهم في السيئات، كما يتفاضل أهل الجنة في الثواب لتفاضلهم في الحسنات، لكن قد يعبر عن تفاضل أهل الجنة بالدرَج، وعن تفاضل أهل النار بالدرك، فإذا جمع بينهما بالتفاضل عبر عن تفاضلهما بالدرج تغليباً لصفة أهل الجنة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المحسن في روْح الثواب متنعِّم، والمذنب في نوْح العذاب متألم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} أي ولكل من معشري الجن والإنس الذين بلغتهم دعوة الرسل درجات ومنازل من جزاء أعمالهم تتفاوت بتفاوتهم فيها {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} بل هو عالم به ومحصيه عليهم، فجزاء سيئة سيئة مثلها، ويضاعف الله الحسنات دون السيئات، لأن الفضل ما كان فوق العدل. فإن أريد بكل من الفريقين آخر من ذكر منهم وهم الكافرون على ما هو الأكثر في الاستعمال فالدرجات بمعنى الدركات كالدرج والدرك، والأصل في الأول أن يستعمل في الخير وجزائه والثاني في مقابله ومنه {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (النساء 145) والراغب يفرق بينهما بأن الدرج يقال باعتبار الصعود والدرك باعتبار الحدور والهبوط. وجمهور المفسرين جعلوا كلا هنا عاما لفريقي المؤمنين والكافرين فيكون استعمال الدرجات من باب تغليب المؤمنين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
احتراس على قوله: {ذلك أن لم يكن ربّك مهلك القرى بظلم} [الأنعام: 131] للتنبيه على أنّ الصّالحين من أهل القرى الغالبِ على أهلها الشركُ والظّلم لا يُحرمون جزاء صلاحهم.
والتّنوين في: {ولكل} عوض عن المضاف إليه: أي ولكلّهم، أي كلّ أهل القرى المهلَكة درجات. يعني أنّ أهلها تتفاوت أحوالهم في الآخرة. فالمؤمنون منهم لا يضاع إيمانهم. والكافرون يحشرون إلى العذاب في الآخرة. بعد أن عُذّبوا في الدّنيا. فالله قد ينجي المؤمنين من أهل القُرى قبل نزول العذاب. فتلك درجة نالوها في الدّنيا، وهي درجة إظهار عناية الله بهم، وتُرفع درجتهم في الآخرة. والكافرون يحيق بهم عذاب الإهلاك ثمّ يصيرون إلى عذاب الآخرة. وقد تهلك القرية بمؤمنيها ثمّ يصيرون إلى النّعيم فيظهر تفاوت درجاتهم في الآخرة، وهذه حالة أخرى وهي المراد بقوله تعالى: {واتَّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة} [الأنفال: 25]...
والدّرجات هي ما يرتقى عليه من أسفل إلى أعلى، في سُلم أو بناء، وإن قصد بها النّزول إلى محلّ منخفض من جبّ أو نحوه فهي دركات، ولذلك قال تعالى: {يرفع اللَّهُ الذين آمنوا منكم والذينَ أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] وقال: {إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النّار} [النساء: 145] ولمّا كان لفظ (كلّ) مراداً به جميع أهل القرية، وأتى بلفظ {الدّرجات} كان إيماء إلى تغليب حال المؤمنين لِتَطمئنّ نفوسُ المسلمين من أهل مكّة بأنّهم لا بأس عليهم من عذاب مشركيها، ففيه إيماء إلى أنّ الله منجيهم من العذاب: في الدّنيا بالهجرة، وفي الآخرة بحشرهم على أعمالهم ونياتهم لأنَّهم لم يقصروا في الإنكار على المشركين، ففي هذه الآية إيذان بأنَّهم سيخرجون من القرية الّتي حقّ على أهلها العذاب، فإنّ الله أصاب أهل مكّة بالجوع والخوف ثمّ بالغزو بعد أن أنجى رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وقدْ عُلم من الدّرجات أنّ أسافلها دركات فغلب درجات لنكتة الإشعار ببشارة المؤمنين بعد نِذارة المشركين. و {مِن} في قوله {مما عملوا} تعليلية، أي من أعمالهم أي بسبب تفاوت أعمالهم.
وقوله: {وما ربك بغافل عما يعملون} خطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم
وقرأ الجمهور: {يعلمون} بياء الغيبة فيعود الضّمير إلى أهل القرى، والمقصود مشركو مكّة، فهو للتّسليّة والتّطمين لئلا يُستبطَأ وعد الله بالنَّصر، وهو تعريض بالوعيد للمشركين من باب: واسمعي يا جارة. وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب، فالخطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، فهو وعد بالجزاء على صالح أعمالهم، ترشيحاً للتّعبير بالدّرجات حسبما قدّمناه، ليكون سَلاً لهم من وعيد أهل القرى أصحاب الظّلم، وكلتا القراءتين مراد الله تعالى فيما أحسب.