ثم ختم - سبحانه - قصة موسى ببيان جانب مما منحه - عز وجل - له من نعم فقال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب } أى آتيناه التوراة لتكون هداية ونورا { مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى } أى : أنزلنا التوراة على موسى ، من بعد إهلاكنا للقرون الأولى من الأقوام المكذبين ، كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم .
قال الآلوسى : " والتعرض لبيان كون إيتائها بعد إهلاكهم للإشعار بأنها نزلت بعد مساس الحاجة إليها ، تمهيدا لما يعقبه من بيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن إهلاك القرون الأولى . من موجبات اندراس معالم الشرائع ، وانطماس آثارها ، المؤديين إلى اختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم وكل ذلك يستدعى تشريعا جديدا .
وقوله - تعالى - { بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً } منصوب على أنه مفعول لأجله أو حال أى : آتيناه التوراة من أجل أن تكون أنوارا لقلوبهم يبصرون بها الحقائق ، كما يبصرون بأعينهم المرئيات ، ومن أجل أن تكون هداية لهم إلى الصراط المستقيم ، ورحمة لهم من العذاب .
وقوله - سبحانه - { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } تعليل لهذا الإيتاء ، وحض لهم على الشكر .
أى آتيناهم الكتاب الذى عن طريقه يعرفون الحق من الباطل . . . كى يكونوا دائما متذكرين لنعمنا ، وشاكرين لنا على هدايتنا لهم ورحمتنا بهم .
وإلى هنا نرى السورة الكريمة ، قد حدثتنا عن جوانب متعددة من حياة موسى - عليه السلام - .
حدثتنا عن رعاية الله - تعالى - له حيث أراد له أن يعيش فى بيت فرعون وأن يحظى برعاية امرأته ، وأن يعود بعد ذلك إلى أمه كى تقر عينها به ، دون أن يصيبه أذى من فرعون الذى كان يذبح الذكور من بنى إسرائيل ويستحيى نساءهم .
ثم حدثتنا عن رعاية الله - تعالى - له ، بعد أن بلغ أشده واستوى ، حيث نجاه من القوم الظالمين ، بعد أن قتل واحدا منهم .
ثم حدثتنا عن رعاية الله - تعالى - له ، بعد أن خرج من مصر خائفا يترقب متجها إلى قرية مدين ، التى قضى فيها عشر سنين أجيرا عند شيخ كبير من أهلها
ثم حدثتنا عن رعاية الله - تعالى - له ، بعد أن قضى تلك المدة ، وسار بأهله متجها إلى مصر ، وكيف أن الله - تعالى - أمره بتبليغ رسالته إلى فرعون وقومه ، وأنه - عليه السلام - قد لبى أمر ربه - سبحانه - وبلغ رسالته على أتم وجه وأكمله ، فكانت العاقبة الطيبة له ولمن آمن به ، وكانت النهاية الأليمة لفرعون وجنوده .
وهكذات طرفت بنا السورة الكريمة مع قصى موسى - عليه السلام - ذلك التطواف الذى نرى فيه رعاية الله - تعالى - لموسى ، وإعداده لحمل رسالته ، كما نرى فيه نماذج متنوعة لأخلاقه الكريمة ، ولهمته العالية ، ولصبره على تكاليف الدعوة ، ولسنن الله - تعالى - فى خلقه ، تلك السنين التى لا تتخلف فى بيان أن العاقبة الحسنة للمتقين ، والعاقبة القبيحة للكافرين والفاسقين .
ويعبر السياق هنا مرحلة الخروج ببني إسرائيل من مصر ، وما حدث خلالها من أحداث ، ليعجل بعرض نصيب موسى بعد عرض نصيب فرعون :
( ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ، بصائر للناس ، وهدى ورحمة ، لعلهم يتذكرون ) . .
هذا نصيب موسى . وهو نصيب عظيم . وهذه عاقبة موسى . وهي عاقبة كريمة . . كتاب من الله يبصر الناس كأنه بصائرهم التي بها يهتدون ، ( وهدى ورحمة ) . . ( لعلهم يتذكرون ) . . يتذكرون كيف تتدخل يد القدرة بين الطغاة والمستضعفين ، فتختم للطغاة بالهلاك والتدمير ، وتختم للمظلومين بالخير والتمكين .
وهكذا تنتهي قصة موسى وفرعون في هذه السورة . شاهدة بأن الأمن لا يكون إلا في جانب الله . وأن المخافة لا تكون إلا في البعد عن الله . ذلك إلى تدخل يد القدرة سافرة متحدية للطغيان والطغاة ، حين تصبح القوة فتنة يعجز عن صدها الهداة . وهي المعاني التي كانت الجماعة المسلمة الصغيرة المستضعفة في مكة في حاجة إلى الاطمئنان إليها . وكان المشركون المستكبرون في حاجة إلى تدبرها . وهي المعاني المتجددة الدائمة حيثما كانت دعوة إلى الهدى ، وحيثما كان طغيان يقف في وجه الهدى .
وهكذا يجيء القصص في القرآن مادة تربية للنفوس ، وتقرير لحقائق وسنن في الوجود ( لعلهم يتذكرون ) . .
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم ، عليه من ربه الصلاة والتسليم ، من إنزال التوراة عليه بعدما أهلك فرعون وملأه .
وقوله : { مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى } يعني : أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمة بعامة ، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين ، كما قال : { وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً } [ الحاقة : 9 ، 10 ] .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد وعبد الوهاب قالا حدثنا عوف ، عن أبي نَضْرَة ، عن أبي سعيد الخُدْري قال : ما أهلك الله قومًا بعذاب من السماء ولا من الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض ، غير القرية التي مسخوا قردة ، ألم تر أن الله يقول : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى }{[22326]} .
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث عوف بن أبي جَميلة{[22327]} الأعرابي ، بنحوه . وهكذا رواه أبو بكر البزار في مسنده ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يحيى القَطَّان ، عن عوف ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد موقوفًا{[22328]} . ثم رواه عن نصر بن علي ، عن عبد الأعلى ، عن عوف ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد - رفعه{[22329]} إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال : " ما أهلكَ الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض إلا قبل موسى " ، ثم قرأ : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى } {[22330]} .
وقوله : { بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } أي : من العمى والغي ، { وهدى } إلى الحق ، { ورحمة } أي : إرشادا إلى الأعمال الصالحة ، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : لعل الناس يتذكرون به ، ويهتدون بسببه .
وقوله تعالى : { من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } إخبار بأنه أنزل التوراة على موسى بعد هلاك فرعون قومه وبعد هذه الأمم التي قد تقدم ذكرها من عاد وثمود وقرية قوم لوط وغيرها ، والقصد بهذا الإخبار التمثيل لقريش بما تقدم في غيرها من الأمم ، وقالت ، فرقة : إن الآية مضمنة أن إنزال التوراة على موسى هو بعد أن رفع الله تعالى عذاب الأمم فلم تعذب أمة بعد نزول التوراة إلا القرية التي مسخت قردة ، فيما روي ، وقوله { بصائر } نصب على الحال ، أي طرائق هادية ، وقوله تعالى : { لعلهم يتذكرون } أي على ترجى البشر وما يعطيه تأميل من أمل الأمر ، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : ما أهلك الله تعالى أمة بعذاب منذ أنزل إلى الأرض غير القرية التي مسخت قردة{[9151]} وهم الذي تعدوا في السبت ، وهذا التعذيب من سبب شرع موسى فكأنه لا ينقص فضيلة التوراة برفع العذاب عن الأرض .