ثم بين - سبحانه - ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فى شأن هؤلاء المشركين ، وما قالوه فى شأن القرآن الكريم ، وما رد به - سبحانه - عليهم ، فقال - تعالى - : { وَقَالَ الرسول . . . } .
قوله - سبحانه - : { وَقَالَ الرسول . . . } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ . . } وما بينهما اعتراض مسوق لاستعظام قبح ما قالوه ولبيان ما يحل بهم بسببه من عذاب .
أى : وقال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم متضرعا وشاكيا لربه " يارب إن قومى " الذين أرسلتنى إليهم قد " اتخذوا هذا القرآن " المشتمل على ما يهديهم إلى الرشد وعلى ما يسعدهم فى دنياهم وآخرتهم ، قد اتخذوه " مهجورا " أى : متروكا فقد تركوا تصديقه ، وتركوا العمل به وتركوا التأثر بوعيده . . . من الهَجْر - بفتح الهاء بمعنى الترك ، أو المعنى : قد اتخذوا هذا القرآن مادة لسخريتهم وتهكمهم ، من الهُجْر - بضم الاء - بمعنى الهذيان والقول الباطل ، ومنه قوله - تعالى - : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ } وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على التخويف العظيم لمن يهجر القرآن الكريم . فلم يحفظه أو لم يحفظ شيئا منه ، ولم يعمل بما فيه من حلال وحرام ، وأوامر ونواه . . .
قال بعض العلماء هجر القرآن أنواع : أحدها : هجر سماعة وقراءته . وثانيها : هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه . . . وثالثها : هجر تحكيمه والتحاكم إليه فى أصول الدين وفروعه . . . ورابعها : هجر تدبره وتفهمه . . . وكل هذا دخل فى هذه الآية ، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض .
وبعد هذه الجولة في اليوم العسير يعود بهم إلى الأرض يستعرض موقفهم مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] واعتراضاتهم على طريقة تنزيل القرآن . ثم ينهي هذه الجولة بمشهدهم كذلك يوم الحشر والنشور :
( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا . وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ، وكفى بربك هاديا ونصيرا . وقال الذين كفروا : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة . كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا . ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا . الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ) . .
لقد هجروا القرآن الذي نزله الله على عبده لينذرهم . ويبصرهم . هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه ردا . وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله ، ويجدوا الهدي على نوره . وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم ، وقد جاء ليكون منهاج حياة يقودها إلى أقوم طريق :
( وقال الرسول : يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) . .
وإن ربه ليعلم ؛ ولكنه دعاء البث والإنابة ، يشهد به ربه على أنه لم يأل جهدا ، ولكن قومه لم يستمعوا لهذا القرآن ولم يتدبروه .
يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد{[21509]} - صلوات الله وسلامه{[21510]} عليه دائما إلى يوم الدين - أنه قال : { يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } ، وذلك أن المشركين كانوا لا يُصغُون للقرآن ولا يسمعونه{[21511]} ، كما قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] وكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه . فهذا من هجرانه ، وترك [ علمه وحفظه أيضا من هجرانه ، وترك ]{[21512]} الإيمان به وتصديقه من هجرانه ، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه ، والعدولُ عنه إلى غيره - من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره - من هجرانه ، فنسأل الله الكريمَ المنانَ القادرَ على ما يشاء ، أن يخلّصنا مما يُسْخطه ، ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه ، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطرافَ النهار ، على الوجه الذي يحبه ويرضاه ، إنه كريم وهاب .
{ وقال الرسول } محمد يومئذ ، أو في الدنيا بثا إلى الله تعالى . { يا رب إن قومي } قريشا . { اتخذوا هذا القرآن مهجورا } بأن تركوه وصدوا عنه ، وعنه عليه الصلاة والسلام " من تعلم القرآن وعلق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه " أو هجروا ولغوا فيه إذا سمعوه أو زعموا أنه هجر وأساطير الأولين ، فيكون أصله { مهجورا } فيه فحذف الجار ويجوز أن يكون بمعنى الهجر كالمجلود والمعقول ، وفيه تخويف لقومه ، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب .
عطف على أقوال المشركين ومناسبته لقوله : { لقد أضلّني عن الذكر } [ الفرقان : 29 ] أن الذكر هو القرآن فحكيت شكاية الرسول إلى ربّه قومَه من نبذهم القرآن بتسويل زعمائهم وسادتهم الذين أضلوهم عن القرآن ، أي عن التأمل فيه بعد أن جاءهم وتمكنوا من النظر ، وهذا القول واقع في الدنيا والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو خبر مستعمل في الشكاية .
والمقصود من حكاية قول الرسول إنذار قريش بأن الرسول توجه إلى ربّه في هذا الشأن فهو يستنصر به ويوشك أن ينصره ، وتأكيده ب { إنّ } للاهتمام به ليكون التشكّي أقوى . والتعبير عن قريش ب { قومي } لزيادة التذمر من فعلهم معه لأن شأن قوم الرجل أن يوافقوه .
وفعل الاتخاذ إذا قيّد بحالة يفيد شدة اعتناء المتَّخذ بتلك الحالة بحيث ارتكب الفعل لأجلها وجعله لها قصداً . فهذا أشد مبالغة في هجرهم القرآن من أن يقال : إن قومي هجروا القرآن .
واسم الإشارة في { هذا القرآن } لِتَعظيمه وأن مثله لا يُتّخَذ مهجوراً بل هو جدير بالإقبال عليه والانتفاع به .
والمهجور : المتروك والمفارَق . والمراد هنا ترك الاعتناء به وسماعِه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.