وقوله : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } بيان للأسباب التي أدت بهم إلى هذا المصير السئ . وأنهم هم الذين جنوا على أنفسهم بشؤم صنيعهم ، وانقيادهم للهوى والشيطان .
أى : ذلك الذي نزل بكم - أيها الكافرون - من الضرب وعذاب النار ، سببه ما قدمته أيديكم من عمل سئ ، وفعل قبيح ، وقول منكر ، وجحود للحق . وأن الله - تعالى - ليس بذى ظلم لكم ولا لغيركم ، لأن حكمته - سبحانه - قد اقتضت ألا يعذب أحدا إلا بسبب ذنب ارتكبه ، وجرم اقترفه .
فاسم الإِشارة " ذلك " يعود إلى الضرب وعذاب الحريق ، وهو مبتدأ ، وخبره قوله { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } .
والمراد بالأيدى : الأنفس والذوات ، والتعبير بالأيدى عن ذلك من قبيل التعبير بالجزء عن الكل .
وخصت الأيدى بالذكر ، للدلالة على التمكن من الفعل وإرادته ، وأن أكثر الأفعال يكون عن طريق البطش بالأيدى . ولأن نسبة الفعل إلى اليد تفيد الالتصاق به ، والاتصال بذاته .
وقوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة اعتراض تذييلى مقرر مضمون ما قبله .
أى : ذلك الذي نزل بكم سببه ما قدمته ايدكم ، والأمر أن الله - تعالى - ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب جنوه .
ويجوز أن يكون معطوفا على ( ما ) المجرورة بالباء . أى : ذلك بسبب ما قدمته ايدكم وأن الله ليس بظلام للعبيد .
قال بعض العلماء : فإن قيل ما سر التعبير بقوله { بِظَلاَّمٍ } بالمبالغة ، مع أن نفي أصل الظلم أبلغ من نفي كثرته ، ونفى الكثرة لا ينفى أصله ، بل ربما يشعر بوجوده ، وبرجوع النفى للقيد ؟ .
منها : أنه نفي لأصل الظلم وكثرته ، باعتبار آحاد من ظلم ، كأنه قيل ظالم لفلان ولفلان وهلم جرا ، فلما جمع هؤلاء عدل إلى { بِظَلاَّمٍ } لذلك ، أى : لكثرة الكمية فيه .
ومنها : أنه إذا انتفى الظلم الكثير ، انتفى الظلم القليل ، لأن من يظلم يظلم للانتفاع بالظلم ، فإذا ترك كثيره ، مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا .
ومنها : أن " ظلاما " للنسب كعطار ، أى : لا ينسب إليه الظلم أصلا .
ومنها : أن كل صفة له - تعالى - في أكمل المراتب ، فلو كان - سبحانه - طالما ، كان ظلاما ، فنفي اللازم نفي للملزوم .
ومنها : أن نفي { الظلام } لنفي الظالم ضرورة أنه إذا انتفى الظلم انتفى كماله ، فجعل نفي المبالغة كناية عن نفي أصله ، انتقالا من اللازم إلى الملزوم .
ومنها : أن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعب بمثله ظلاما بليغ الظلم متفاقمه ، فالمراد تنزيهه - تعالى - وهو جدير بالمبالغة .
وفى صحيح مسلم عن أبى ذر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله - تعالى - يقول :
" يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا " .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد بينتا حالة المشركين عند قبض أرواحهم بيانا يحمل النفوس على الإِيمان والطاعة لله - تعالى - فقد رسم القرآن رصورة مفزعة لهم ، صورة الملائكة وهى تضرب وجوههم وأدبارهم بأمر من الله - تعالى الذي ما ظلمهم ، ولكنهم هم الذين أحلوا بأنفسهم هذا المصير المؤلم المهين ، حيث كفروا بالحق ، وحاربوا أتباعه ، واستحيوا العمى على الهدى
وأنتم إنما تلاقون جزاء عادلاً ، تستحقونه بما قدمت أيديكم :
( وأن الله ليس بظلام للعبيد ) . .
وهذا النص - بما يعرضه من مشهد " عذاب الحريق " - يثير في النفس سؤالا : ترى هذا تهديد من الملائكة للذين كفروا بعذاب المستقبل المقرر لهم - كأنه واقع بهم - بعد البعث والحساب ? أم أنهم يلاقون عذاب الحريق بمجرد توفيهم ? . .
وكلاهما جائز ، لا يمنع مانع من فهمه من النص القرآني . . ولا نحب أن نزيد شيئاً على هذا التقرير . . فهو أمر من أمور الغيب الذي استأثر الله بعلمه ؛ وليس علينا فيه إلا اليقين بوقوعه . وهو واقع ماله من دافع . أما موعده فعلم ذلك عند علام الغيوب .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي : هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا ، جازاكم الله بها هذا الجزاء ، { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } أي : لا يظلم أحدا من خلقه ، بل هو الحكم العدل ، الذي لا يجور ، تبارك وتعالى وتقدس وتنزه الغني الحميد ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح عند مسلم ، رحمه الله ، من رواية أبي ذر ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يقول : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا . يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " {[13088]} ولهذا قال تعالى : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
{ ذلك } الضرب والعذاب . { بما قدّمت أيديكم } بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي وهو خبر لذلك . { وأن الله ليس بظلام للعبيد } عطف على " ما " للدلالة على أن سببيته بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم . فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب وظلام التكثير لأجل العبيد .
وقوله تعالى : { ذلك بما قدمت أيديكم } يحتمل أن يكون من قول الملائكة في وقت توفيتهم لهم على الصورة المذكورة ، ويحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً تقريعاً من الله عز وجل للكافرين حيهم وميتهم ، { وأن } يصح أن تكون في موضع رفع على تقدير والحكم أن ، ويصح أن تكون في موضع خفض عطفاً على ما في قوله { بما قدمت } ، وقال مكي والزهراوي : ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الباء تقديره «وبأن » ، فلما حذفت الباء حصلت في موضع نصب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير متجه ولا بيّن إلا أن تنصب بإضمار فعل .
اسم الإشارة { ذلك بما قدمت أيديكم } إلى ما يشاهدونه من العذاب ، وجيء بإشارة البعيد لتعظيم ما يشاهدونه من الأهوال .
والجملة مستأنفة لقصد التنكيل والتشفّي . والباء للسببية ، وهي ، مع المجرور ، خبر عن اسم الإشارة .
و« ما » في قوله : { بما قدمت أيديكم } موصولة ، ومعنى { قدمت أيديكم } أسلفته من الأعمال فيما مضى ، أي من الشرك وفروعه من الفواحش .
وذكر الأيدي استعارة مكنية بتشبيه الأعمال التي اقترفوها ، وهي ما صدقُ { ما قدمت } بما يجتنيه المجتني من الثمر ، أو يقبضه البائع من الأثمان ، تشبيه المعقول بالمحسوس ، وذكر رديف المشبه وهو الأيدي التي هي آلة الاكتساب ، أي : بما قدّمته أيديكم لكم .
وقوله : { وأن الله ليس بظالم للعبيد } عطف على { ما قدمت أيديكم } والتقدير : وبأنّ الله ليس بظلام للعبيد ، وهذا علّة ثانية لإيقاع تلك العقوبة عليهم ، فالعلة الأولى ، المفادة من باء السببية تعليل لإيقاع العقاب . والعلّة الثانية ، المفادة من العطف على الباء ومجرورها ، تعليل لصفة العذاب ؛ أي هو عذاب معادل لأعمالهم ، فمورد العلّتين شيء واحد لكن باختلاف الاعتبار .
ونفي الظلم عن الله تعالى كناية عن عدله ، وأنّ الجزاء الأليم كَانَ كِفاء للعمل المجازَى عنه دون إفراط .
وجعل صاحب « الكشّاف » التعليلين لشيء واحد ، وهو ذلك العذاب ، فجعلهما سببين لكفرهم ومعاصيهم ، وأنّ التعذيب من العَدل مثل الإثابة ، وهو بعيد ، لأنّ ترك الله المؤاخذة على الاعتداء على حقوقه إذا شاء ذلك ، ليس بظلم ، والموضوع هو العقاب على الإشراك والفواحش ، وأمّا الاعتداء على حقوق الناس فترك المؤاخذة به على تسليم أنّه ليس بعدل ، وقد يعوض المعتدى عليه بترضية من الله ، فلذلك كان ما في « الكشّاف » غير خال عن تعسف حمله عليه الإسراع لنصرة مذهب الاعتزال من استحالة العفو عن العصاة ، لأنّه مناف للعدل أو للحكمة .
ونفي ظَلاَّم بصيغة المبالغة لا يفيد إثبات ظلم غير قوي ؛ لأنّ الصيغ لا مفاهيم لها ، وجرت عادة العلماء أن يجيبوا بأنّ المبالغة منصرفة إلى النفي كما جاء ذلك كثيراً في مثل هذا ، ويزاد هنا الجواب باحتمال أنّ الكثرة باعتبار تعلّق الظلم المنفي ، لو قدر ثبوته ، بالعبيد الكثيرين ، فعبّر بالمبالغة عن كثرة إعداد الظلم باعتبار تعدّد أفراد معموله .
والتعريف باللام في { العبيد } عوض عن المضاف إليه ، أي : لعبيدِهِ كقوله : { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] ويجوز أن يكون { العبيد } أطلق على ما يرادف الناس كما أطلق العباد في قوله تعالى : { يا حسرة على العباد } في سورة [ يس : 30 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذلك} العذاب {بما قدمت أيديكم} من الكفر والتكذيب، {وأن الله ليس بظلام للعبيد} يقول: ليس يعذبهم على غير ذنب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل الملائكة لهؤلاء المشركين الذين قتلوا ببدر أنهم يقولون لهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم: ذوقوا عذاب الله الذي يحرقكم، هذا العذاب لكم "بما قَدّمَتْ أَيْدِيكُمْ "أي بما كسبت أيديكم من الآثام والأوزار واجترحتم من معاصي الله أيام حياتكم، فذوقوا اليوم العذاب وفي معادكم عذاب الحريق وذلك لكم بأن الله ليس بظلام للعبيد، لا يعاقب أحدا من خلقه إلا بجرم اجترمه، ولا يعذبه إلا بمعصيته إياه، لأن الظلم لا يجوز أن يكون منه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... قوله تعالى: (وأن الله ليس بظلام للعبيد) في ما شرع من القتال والإهلاك والتعذيب في الآخرة، لأنه مكن لهم ما يكسبون به من النجاة والحياة الدائمة، فما لحقهم مما ذكر إنما كان باكتسابهم واختيارهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... وإنما قيل بما قدمت أيديكم مع أن اليد لا تعمل شيئا لتبين أنه بمنزلة ما يعمل باليد في الجناية، ولذلك لم يذكر القلوب، وإن كان بها معتمد العصيان، لأنه قصد إظهار ما يقع به الجنايات في غالب الأمر وتعارف الناس.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} يحتمل أن يكون من كلام الله ومن كلام الملائكة... أي ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم ومعاصيكم وبأن الله {لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} لأن تعذيب الكفار من العدل كإثابة المؤمنين...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي: هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا، جازاكم الله بها هذا الجزاء أي: لا يظلم أحدا من خلقه، بل هو الحكم العدل، الذي لا يجور، تبارك وتعالى وتقدس وتنزه الغني الحميد؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح عند مسلم، رحمه الله، من رواية أبي ذر، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى يقول: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه"...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد}
ويؤيد القول الظاهر بأن هذا في عذاب الآخرة بقية قولهم لهم: {ذلك بما قدمت أيديكم} أي ذلك العذاب الذي ذقتم وتذوقون بسبب ما كسبت أيديكم في الدنيا فقدمتموه إلى الآخرة من كفر وظلم، وهو يشمل القول والعمل. وسواء كان من عمل الأيدي أو الأرجل أو الحواس أو تدبير العقل كل ذلك ينسب إلى عمل الأيدي توسعا وتجوزا، وأصله أن أكثر الأعمال البدنية تزاول بها.
{وأن الله ليس بظلام للعبيد} أي وبأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد فيكون ذلك العذاب ظلما منه على تقدير عدم وقوع سببه من كسب أيديكم، ولكن سبب ذلك منكم ثابت قطعا، كما أن وقوع الظلم منه لعبيده منتف قطعا، فتعين أن تكونوا أنتم الظالمين لأنفسكم قطعا، فلوموها فلا لوم لكم إلا عليها. وفي الحديث القدسي الذي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) الخ، رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه. والحق أن للظلم حقيقة وأنه تعالى منزه عنه كتنزهه عن سار النقائص وما ينافي كمال الربوبية والألوهية، لا لاستحالة وقوعه منه عقلا لأن معناه التصرف في ملك الغير ولا ملك لغيره تعالى كما قالت الأشعرية وهو خطأ في تعريف الظلم وخطأ في أصل المسألة بينا من قبل.
...ونكتة هذا التكرار اللفظي بيان أن هذه الحجة الإلهية تقام في الآخرة على جميع الكفار المجرمين بهذا القول، فليست خاصة بحال أناس أو قوم دون آخرين، وما سبق في سورة آل عمران ورد في اليهود الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم وجحدوا نبوته كما آذوا النبيين قبله وكانوا يقتلونهم بغير حق على ما كان من بخلهم وقول بعضهم {إن الله فقير ونحن أغنياء}..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأنتم إنما تلاقون جزاء عادلاً، تستحقونه بما قدمت أيديكم:
وهذا النص -بما يعرضه من مشهد "عذاب الحريق"- يثير في النفس سؤالا: ترى هذا تهديد من الملائكة للذين كفروا بعذاب المستقبل المقرر لهم -كأنه واقع بهم- بعد البعث والحساب؟ أم أنهم يلاقون عذاب الحريق بمجرد توفيهم؟..
وكلاهما جائز، لا يمنع مانع من فهمه من النص القرآني.. ولا نحب أن نزيد شيئاً على هذا التقرير.. فهو أمر من أمور الغيب الذي استأثر الله بعلمه؛ وليس علينا فيه إلا اليقين بوقوعه. وهو واقع ماله من دافع. أما موعده فعلم ذلك عند علام الغيوب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اسم الإشارة {ذلك بما قدمت أيديكم} إلى ما يشاهدونه من العذاب، وجيء بإشارة البعيد لتعظيم ما يشاهدونه من الأهوال.
والجملة مستأنفة لقصد التنكيل والتشفّي. والباء للسببية، وهي، مع المجرور، خبر عن اسم الإشارة.
و« ما» في قوله: {بما قدمت أيديكم} موصولة، ومعنى {قدمت أيديكم} أسلفته من الأعمال فيما مضى، أي من الشرك وفروعه من الفواحش.
وذكر الأيدي استعارة مكنية بتشبيه الأعمال التي اقترفوها، وهي ما صدقُ {ما قدمت} بما يجتنيه المجتني من الثمر، أو يقبضه البائع من الأثمان، تشبيه المعقول بالمحسوس، وذكر رديف المشبه وهو الأيدي التي هي آلة الاكتساب، أي: بما قدّمته أيديكم لكم.
وقوله: {وأن الله ليس بظالم للعبيد} عطف على {ما قدمت أيديكم} والتقدير: وبأنّ الله ليس بظلام للعبيد، وهذا علّة ثانية لإيقاع تلك العقوبة عليهم، فالعلة الأولى، المفادة من باء السببية تعليل لإيقاع العقاب. والعلّة الثانية، المفادة من العطف على الباء ومجرورها، تعليل لصفة العذاب؛ أي هو عذاب معادل لأعمالهم، فمورد العلّتين شيء واحد لكن باختلاف الاعتبار.
ونفي الظلم عن الله تعالى كناية عن عدله، وأنّ الجزاء الأليم كَانَ كِفاء للعمل المجازَى عنه دون إفراط.
...ونفي ظَلاَّم بصيغة المبالغة لا يفيد إثبات ظلم غير قوي؛ لأنّ الصيغ لا مفاهيم لها، وجرت عادة العلماء أن يجيبوا بأنّ المبالغة منصرفة إلى النفي كما جاء ذلك كثيراً في مثل هذا، ويزاد هنا الجواب باحتمال أنّ الكثرة باعتبار تعلّق الظلم المنفي، لو قدر ثبوته، بالعبيد الكثيرين، فعبّر بالمبالغة عن كثرة إعداد الظلم باعتبار تعدّد أفراد معموله.
والتعريف باللام في {العبيد} عوض عن المضاف إليه، أي: لعبيدِهِ كقوله: {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41] ويجوز أن يكون {العبيد} أطلق على ما يرادف الناس كما أطلق العباد في قوله تعالى: {يا حسرة على العباد} في سورة [يس: 30].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد بين سبحانه وتعالى عذابه مربوطا بسببه فقال:
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}.
الإشارة إلى ما سينزله الله بالذين كفروا، من العذاب الشديد والعذاب الأليم، والباء للسببية والمعنى العذاب الشديد بسبب ما قدموا من إيذاء للمؤمنين، ومعانة لرب العالمين، وجحود بالآيات وتكذيب لكتاب الله ورسوله، وعبر سبحانه وتعالى عن ذنوبهم التي تضافرت وتكاثرت بقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} مع أن الذنوب تكون بالألسنة وقول الباطل كما تكون بالأيدي؛ لأن الأيدي بها البطش الظاهر، وبها أوذي المؤمنون، وبها نكل بالضعفاء، وحملها للأسلحة في الحروب، وإن التعبير عن الكل باسم الجزء مجاز مرسل مشهور، إذا كان للجزء مكانة خاصة في الحكم، كقولهم عن الجاسوس: العين؛ لأن العين لها مظهر خاص في التجسس.
والمراد بما قدموا من أعمال وما قالوا به من أقوال، وإن هذا الجزاء عدل لا ظلم فيه، ولذا قال تعالى: {وما ربك بظلام لعبيد (46)} (فصلت)، وقال سبحانه في هذه الآية {وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} والواو هنا للعطف، أي أن ذلك العذاب كان بسبب ما قدموه، وبسبب أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد، أي أنهم ينالون جزاء ما اقترفوا والعادل يعطي كل إنسان ما يستحق، {وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء} (غافر 58)، فذلك يتحقق عدل الله الكامل، وينتفي عنه الظلم سبحانه إنه علي قدير.
ولو كان الله تعالى سوى بين المجرمين والمحسنين، لكان ثمة شائبة ظلم، والله منزه عن ذلك، ومعاذ الله أن ينسب إليه، وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}، فيه تقرير العذاب، وتثبيته، وفيه تبريره.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} نفى للظلم الكثير المتكرر، فهل معنى ذلك بمفهوم المخالفة أن الظلم القليل، ليس بمنفى عنه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا؟.
والجواب عن ذلك أن النص الكريم ينفي أصل الظلم عن رب العالمين، وإنما النفي بصيغة المبالغة للإشارة إلى أن المساواة بين المحسن والمسيء ظلم كبير ولا يفعله إلا ظلام للعبيد، وقيل: إن الظلم بصيغة المبالغة لكثرة المستحقين للعقاب، فلو لم يعاقبهم لكان ظلاما، والله تعالى ليس بظلام.
ومن هذا النص الكريم يفهم أن العدل يوجب أمرين أولهما ألا يعاقب المحسن، فإن عقابه ظلم، وثانيهما أن يعاقب المسيء ولا تأخذ الناس به رأفة، لأنه لم يرحم الناس، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم (من لا يرحم لا يرحم) (1).
وقد أراد الله سبحانه وتعالى بهذه الآية الكريمة أن يخبرنا أنه لا يظلم أحدا ولو مثقال ذرة، إذن فهو ليس بظلاّم للعبيد؛ لأنه لو ظلم كل عبد من عباده ذرة لكانت كمية الظلم هائلة لكثرة العباد. ولكن حتى هذه الذرة من الظلم لا تحدث من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله ليس بظلاّم للعبيد...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} من أعمال شريرة، ومن اختيارات فاسدةٍ، ومن كفرٍ وضلالٍ وكبرياء. "وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ "فلا يعاقبهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم، في ما يقدّم لهم من براهين، وما يمكّنهم به من قوى. وتلك هي سنته في خلقه الذين يكفرون به ويتمرّدون عليه في الماضي والحاضر.