التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

وقوله - سبحانه - : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ . . } بيان لموقف هذا الإِنسان عند فقره . أى : وأما إذا ما امتحنا هذا الإِنسان بسلب بعض النعم عنه ، وبضيق الرزق . . { فيقول } على سبيل التضجر والتأفف وعدم الرضا بقضائه - سبحانه - : { ربي أَهَانَنِ } أى : ربى أذلنى بالفقر ، وأنزل بى الهوان والشرور .

وقول هذا الإِنسان فى الحالين ، قول مذموم ، يدل على سوء فكره ، وقصور نظره ، وانطماس بصيرته ، لأنه فى حالة العطاء والعسة فى الرزق ، يتفاخر ويتباهى ، ويتوهم أن هذه النعم هو حقيق وجدير بها ، وليست من فضل الله - تعالى - وكأنه يقول ما قاله قارون : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } وفى حالة المنع والضيق فى الرزق يجزع ، ويأبى أن يرضى بقضاء الله وقدره . . ولا يخطر بباله أن نعم الله ، إنما هى فضل تفضل به - سبحانه - عليه ليختبره ، أيشكر أم يكفر . وأن تضييقه عليه فى الرزق ، ليس من الإِهانة فى شئ ، بل هو للابتلاء - أيضا - والامتحان ، كما قال - تعالى - : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } قال الإِمام الشوكانى عند تفسيره لهاتين الآيتين : وهذه صفة الكافر الذى لا يؤمن بالبعث ، لأنه لا كرامة عنده إلا الدنيا والتوسع فى متاعها ، ولا إهانة عنده إلا فوتها وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها ، فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته ، ويوفقه لعمل الآخرة .

ويحتمل أن يراد الإِنسان على العموم ، لعدم تيقظه أن ما صار إليه من الخير ، وما أصيب به من الشر فى الدنيا ، ليس إلا للاختبار والامتحان ، وأن الدنيا بأسرها ، لا تعدل عند الله - تعالى - جناح بعوضة .

واقتصر - سبحانه - فى الآية الكريمة على تقتير الرزق ، فى مقابلة النعمة ، دون غير ذلك من الأمراض والآفات ، للإِشعار بأن هذا الإِنسان يعتبر دنياه جنته ومنتهى آماله ، فهو لا يفكر إلا فى المال ولا يحزن إلا من أجله ، وأن المقياس عنده لمقادير الناس هو على حسب ما عندهم من أموال كما قال شاعرهم :

فلو شاء ربى كنت قيسَ بن عاصمٍ . . . ولو شاء ربى كنت عمرَو بنَ مَرْثِد

فأصبحت ذا مال كثير وطاف بى . . . بنونَ كرامٌ ، سادةٌ لُمسوَّد

ولما كان هذا القول مذموما من هذا الإِنسان فى الحالين . لعدم شكره لله - تعالى - فى حالة الرخاء ، ولعدم صبره على قضائه فى حالة البأساء .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

ويبتليه بالتضييق عليه في الرزق ، فيحسب الابتلاء جزاء كذلك ، ويحسب الاختبار عقوبة ، ويرى في ضيق الرزق مهانة عند الله ، فلو لم يرد مهانته ما ضيق عليه رزقه . .

وهو في كلتا الحالتين مخطئ في التصور ومخطئ في التقدير . فبسط الرزق أو قبضه ابتلاء من الله لعبده . ليظهر منه الشكر على النعمة أو البطر . ويظهر منه الصبر على المحنة أو الضجر . والجزاء على ما يظهر منه بعد . وليس ما أعطي من عرض الدنيا أو منع هو الجزاء . . وقيمة العبد عند الله لا تتعلق بما عنده من عرض الدنيا . ورضى الله أو سخطه لا يستدل عليه بالمنح والمنع في هذه الأرض . فهو يعطي الصالح والطالح ، ويمنع الصالح والطالح . ولكن ما وراء هذا وذلك هو الذي عليه المعول . إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي . والمعول عليه هو نتيجة الابتلاء !

غير أن الإنسان - حين يخلو قلبه من الإيمان - لا يدرك حكمة المنع والعطاء . ولا حقيقة القيم في ميزان الله . . فإذا عمر قلبه بالإيمان اتصل وعرف ما هنالك . وخفت في ميزانه الأعراض الزهيدة ، وتيقظ لما وراء الابتلاء من الجزاء ، فعمل له في البسط والقبض سواء . واطمأن إلى قدر الله به في الحالين ؛ وعرف قدره في ميزان الله بغير هذه القيم الظاهرة الجوفاء !

وقد كان القرآن يخاطب في مكة أناسا - يوجد أمثالهم في كل جاهلية تفقد اتصالها بعالم أرفع من الأرض وأوسع - أناسا ذلك ظنهم بربهم في البسط والقبض . وذلك تقديرهم لقيم الناس في الأرض . ذلك أن المال والجاه عندهم كل شيء . وليس وراءهما مقياس ! ومن ثم كان تكالبهم على المال عظيما ، وحبهم له حبا طاغيا ، مما يورثهم شراهة وطمعا . كما يورثهم حرصا وشحا . . ومن ثم يكشف لهم عن ذوات صدورهم في هذا المجال ، ويقرر أن هذا الشره والشح هما علة خطئهم في إدراك معنى الابتلاء من وراء البسط والقبض في الأرزاق .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضَيَّق عليه في الرزق ، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

وكذا قوله وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه إذ التقدير وأما الإنسان إذا ما ابتلاه أي بالفقر والتقتير ليوازن قسيمه فيقول ربي أهانن لقصور نظره وسوء فقره فإن التقتير قد يؤدي إلى كرامة الدارين والتوسعة قد تفضي إلى قصد الأعداء والانهماك في حب الدنيا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

و { ابتلاه } معناه : اختبره ، و { نعمه } معناه : جعله ذا نعمة ، وقرأ ابن كثير «أكرمني » بالياء في وصل ووقف وحذفها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في الوجهين : وقرأ نافع بالياء في الوصل وحذفها في الوقف ، وكذلك «أهانني » ، وخير في الوجهين أبو عمرو ، وقرأ جمهور الناس : «فقدَر » بتخفيف الدال ، بمعنى ضيق ، وقرأ الحسن بخلاف وأبو جعفر وعيسى «قدّر » بمعنى : جعله على قدر ، وهما بمعنى واحد في معنى التضييق لأنه ضعف قدر مبالغة جعفر وعيسى وخالد :«قدّر » بشد الدال{[11800]} ، بمعنى : جعله على قدر ، وهم بمعنى واحد في معنى التضييق لأنه ضعف قدر مبالغة لا تعدية ، ويقتضي ذلك قول الإنسان { أهانني } ، لأن «قدر » معدي إنما معناه أعطاه ما يكفيه ولا إهانة مع ذلك .


[11800]:ما بين علامتي التنصيص زيادة للتوضيح.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

ومعنى : { فقدر عليه رزقه } أعطاه بقَدْر محدود ، ومنه التقتير بالتاء الفوقية عوضاً عن الدال ، وكلّ ذلك كناية عن القلة ويقابله بسط الرزق قال تعالى : { ولو بسط اللَّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء } [ الشورى : 27 ] .

والهاء في { رزقه } يجوز أن تعود إلى { الإنسان } من إضافة المصدر إلى المفعول ، ويجوز أن تعود إلى { ربه } من إضافة المصدر إلى فاعله .

والإِهانة : المعاملة بالهون وهو الذل .

وإسناد { فأكرمه } و{ نعمه } . . . { فقدر عليه رزقه } إلى الرب تعالى لأن الكرامة والنعمة انساقت للإِنسان أو انساق له قَدَر الرزق بأسباب من جعل الله وسننه في هذه الحياة الدنيا بما يصادف بعضُ الحوادث بعضاً ، وأسباب المقارنة بين حصول هذه المعاني وبين من تقع به من الناس في فُرصها ومناسباتها .

والقول مستعمل في حقيقته وهو التكلم ، وإنما يتكلم الانسان عن اعتقاد . فالمعنى : فيقول ربي أكرمني ، معتقداً ذلك ، ويقول : ربيَ أهانني ، معتقداً ذلك لأنهم لا يخلون عن أن يفتخروا بالنعمة ، أو يتذمروا من الضيق والحاجة ، ونظير استعمال القول هذا الاستعمال ما وقع في قوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } [ آل عمران : 75 ] ، أي اعتقدوا ذلك فقالوه واعتذروا به لأنفسهم بين أهل ملتهم .

وتقديم { ربي } على فعل { أكرمني } وفعللِ { أهانني } ، دون أن يقول : أكرمني ربي أو أهانني ربي ، لقصد تقوّي الحكم ، أي يقول ذلك جازماً به غير متردد .

وجملتا : { فيقول } في الموضعين جوابان ل ( إمَّا ) الأولى والثانية ، أي يطرد قول الإِنسان هذه المقالة كلَّما حصلتْ له نعمة وكلما حصل له تقتير رزق .

وأوثِر الفعل المضارع في الجوابين لإِفادة تكرر ذلك القول وتجدده كلما حصل مضمون الشرطين .

وحرف { كَلاّ } زجر عن قول الإِنسان { ربي أكرمن } عند حصول النعمة . وقوله : { ربيَ أهانني } عندما يناله تقتير ، فهو ردع عن اعتقاد ذلك فمناط الردع كِلاَ القولين لأن كل قول منهما صادر عن تأول باطل ، أي ليست حالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا دليلاً على منزلته عند الله تعالى .

وإنما يُعرَف مراد الله بالطرق التي أرشد الله إليها بواسطة رسله وشرائعه ، قال تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } إلى قوله : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } في سورة الكهف ( 103 105 ) . فرب رجل في نعمة في الدنيا هو مسخوط عليه ورب أشعَث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبَرَّهُ .

فمناط الردع جعل الإِنعام علامة على إرادة الله إكرام المنعم عليه وجعل التقتير علامة على إرادة الإِهانة ، وليس مناطه وقوع الكرامة ووقوع الإِهانة لأن الله أهان الكافرَ بعذاب الآخرة ولو شاء إهانته في الدنيا لأجل الكفر لأهان جميع الكفرة بتقتير الرزق .

وبهذا ظهر أن لا تنافي بين إثبات إكرام الله تعالى الإِنسان بقوله : { فأكرمه } وبين إبطال ذلك بقوله : { كلا } لأن الإِبطال وارد على ما قصده الإِنسان بقوله : { ربي أكرمن } أن ما ناله من النعمة علامةٌ على رضى الله عنه .

فالمعنى : أن لشأن الله في معاملته الناس في هذا العالم أسراراً وعِللاً لا يُحاط بها ، وأن أهل الجهالة بمعزل عن إدراك سرها بأقْيسة وهمية ، والاستناد لمألوفات عادية ، وأن الأولى لهم أن يتطلبوا الحقائق من دلائلها العقلية ، وأن يعرفوا مراد الله من وحيه إلى رسله . وأن يحذروا من أن يحيدوا بالأدلة عن مدلولها . وأن يستنتجوا الفروع من غير أصولها .

وأما أهل العلم فهم يضعون الأشياء مواضعها ، ويتوسمون التوسم المستند إلى الهدي ولا يخلطون ولا يخبطون .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { ربي } في الموضعين بفتح الياء . وقرأ الباقون بسكونها .

وقرأ الجمهور { فقدر عليه } بتخفيف الدال . وقرأه ابن عامر وأبو جعفر بتشديد الدال .

وقرأ نافع : { أكرمن } ، و{ أهانن } بياء بعد النون في الوصل وبحذفها في الوقف . وقرأهما ابن كثير بالياء في الوصل والوقف ، وقرأهما ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب بدون ياء في الوصل والوقف . وهو مرسوم في المصحف بدون نون بعد الياءين ولا منافاة بين الرواية واسم المصحف .