أى : " نحن " وحدنا يا محمد ، نقص عليك وعلى أمتك خبر هؤلاء الفتية قصصا لحمته وسداه والحق والصدق ، لأنه قصص من ربك الذى لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء .
وقوله : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } كلام مستأنف جواب عن سؤال تقديره ما قصتهم وما شأنهم بالتفصيل ؟
أى : إنهم فتية أخلصوا العبادة لخالقهم ، وأسلموا وجوههم لبارئهم ، وآمنوا بربوبيته - سبحانه - إيمانا عمقياً ثابتاً ، فزادهم الله ببركة هذا الإِخلاص والثبات على الحق ، هداية على هدايتهم ، وإيمانا على إيمانهم .
وقوله - سبحانه - { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق } إيماء إلى أن قصة هؤلاء الفتية كانت معروفة لبعض الناس ، إلا أن معرفتهم بها كانت مشوبة بالخرافات والأباطيل .
قال ابن كثير : ما ملخصه : ذكر الله - تعالى - أنهم كانوا فتية - أى شبابا - ، وهم أقبل للحق من الشيوخ ، الذين عتوا فى دين الباطل ، ولهذا كان اكثر المستجيبين لله ولرسوله شبابا ، وأما المشايخ من قريش ، فعامتهم بقوا على دينهم ، ولم يسلم منهم إلا القليل .
واستدل غير واحد من الأئمة كالبخارى وغيره بقوله { وزدناهم هدى } إلى أن الإِيمان يزيد وينقص . . .
وبعد هذا التلخيص المشوق للقصة يأخذ السياق في التفصيل . ويبدأ هذا التفصيل بأن ما سيقصه الله منها هو فصل الخطاب في الروايات المتضاربة ، وهو الحق اليقين :
( نحن نقص عليك نبأهم بالحق . إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى . وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا : ربنا رب السماوات والأرض ، لن ندعو من دونه إلها . لقد قلنا إذن شططا . هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين . فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ? وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون - إلا الله - فأووا إلى الكهف ، ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيء لكم من أمركم مرفقا ) .
هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة . ( إنهم فتية آمنوا بربهم ) . . ( وزدناهم هدى ) بإلهامهم كيف يدبرون أمرهم .
من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها ، فذكر تعالى أنهم فتية - وهم الشباب - وهم أقبل للحق ، وأهدى للسبيل من الشيوخ ، الذين قد عتوا وعَسَوا{[17999]} في دين الباطل ؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابًا . وأما المشايخ من قريش ، فعامتهم بَقُوا على دينهم ، ولم يسلم منهم إلا القليل . وهكذا{[18000]} أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابًا .
قال مجاهد : بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني : الحَلَق فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم . فآمنوا بربهم ، أي : اعترفوا له بالوحدانية ، وشهدوا أنه لا إله إلا هو .
{ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } : استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره{[18001]} ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله ، وأنه يزيد وينقص ؛ ولهذا قال تعالى : { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } كَمَا قَالَ { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] ، {[18002]} وقال : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [ التوبة : 124 ] ، وقال { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } [ الفتح : 4 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك .
وقد ذكر{[18003]} أنهم كانوا على دين عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، والله أعلم - والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية ، فإنه{[18004]} لو كانوا على دين النصرانية ، لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم ، لمباينتهم لهم . وقد تقدم عن ابن عباس : أن قريشًا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء ، وعن خبر ذي القرنين ، وعن الروح ، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب ، وأنه متقدم على دين النصرانية ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى { نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ إِنّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبّنَا رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَن نّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهاً لّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : نحن يا محمد نقصّ عليك خبر هؤلاء الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف بالحقّ ، يعني : بالصدق واليقين الذي لا شكّ فيه إنّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبّهِمْ يقول : إن الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف الذين سألك عن نبئهم الملأ من مشركي قومك ، فتية آمنوا بربهم ، وَزِدْناهُمْ هُدًى يقول : وزدناهم إلى إيمانهم بربهم إيمانا ، وبصيرة بدينهم ، حتى صبروا على هجران دار قومهم ، والهرب من بين أظهرهم بدينهم إلى الله ، وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش ولينه ، إلى خشونة المكث في كهف الجبل .
لما اقتضى قوله { لنعلم أي الحزبين أحصى } [ الكهف : 12 ] اختلافاً وقع في أمر الفتية ، عقب بالخير عن أنه عز وجل يعلم من أمرهم { بالحق } الذي وقع ، وفي مجموع هذه الآيات جواب قريش عن سؤالهم الذي أمرتهم به بنو إسرائيل . و «القص » الإخبار بأمر يسرد ، لا بكلام يروى شيئاً شيئاً ، لأن تلك المخاطبة ليست بقصص ، وقوله { وزدناهم هدى } أي يسرناهم للعمل الصالح والانقطاع إلى الله عز وجل ومباعدة الناس والزهد في الدنيا ، وهذه زيادات على الإيمان .
لما اقتضى قوله : { لنعلم أي الحزبين أحصى } [ الكهف : 12 ] أن في نبأ أهل الكهف تخرصات ورجماً بالغيب أثار ذلك في النفس تطلعا إلى معرفة الصدق في أمرهم ، من أصل وجود القصة إلى تفاصيلها من مخبر لا يُشك في صدق خبره كانت جملة نحن نقص عليك نبأهم بالحق استئنافاً بيانياً لجملة لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً [ الكهف : 12 ] .
وهذا شروع في مجمل القصة والاهتمام بمواضع العبرة منها . وقدم منها ما فيه وصف ثباتهم على الإيمان ومنابذتهم قومهم الكفرة ودخولهم الكهف .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة نحن نقص عليك } يفيد الاختصاص ، أي نحن لا غيرُنا يقص قصصهم بالحق .
والحق : هنا الصدق . والصدق من أنواع الحق ، ومنه قوله تعالى : { حقيق عليّ أن لا أقول على الله إلا الحق } في سورة الأعراف ( 105 ) .
والباء للملابسة ، أي القصص المصاحب للصدق لا للتخرصات .
والقصص : سَرد خبر طويل فالإخبارُ بمخاطبة مفرقة ليس بقصص ، وتقدم في طالع سورة يوسف .
والنبأ : الخبر الذي فيه أهمية وله شأن .
وجملة { إنهم فتية } مبينة للقصص والنبأ . وافتتاح الجملة بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام لا لرد الإنكار .
وزيادة الهدى يجوز أن يكون تقوية هُدى الإيمان المعلوم من قوله : { آمنوا بربهم } بفتح بصايرهم للتفكير في وسائل النجاة بإيمانهم وألهمهم التوفيق والثبات ، فكل ذلك هدى زائد على هدى الإيمان .
ويجوز أن تكون تقوية فضل الإيمان بفضل التقوى كما في قوله تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } [ محمد : 17 ] .
والزيادة : وفرةُ مقدار شيء مخصوص ، مثل وفرة عدد المعدود ، ووزن الموزون ، ووفرة سكان المدينة .
وفعل ( زاد ) يكون قاصراً مثل قوله تعالى : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } [ الصافات : 147 ] ، ويكون متعدياً كقوله : { فزادهم الله مرضاً } [ البقرة : 10 ] . وتستعار الزيادة لقوة الوصف كما هنا .