ولقد حكى القرآن جوابهم القبيح على نصائح نبيهم لهم ، فقال : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ } .
أى : وما كان جواب الطغاة المستكبرين على نصائح نبيهم لوط - عليه السلام - إلا أن قال بعضهم لبعض أخرجوا لوطا ومن معه من المؤمنين من قريتكم سدوم التي استوطنتموها وعشتم بها .
وقوله : { إِلاَّ أَن قالوا } استثناء مفرغ من أعم الأشياء ، أى : ما كان جوابهم شيئا من الأشياء سوى قول بعضهم لبعض أخرجوهم .
لماذا هذا الإخراج ؟ بين القرآن أسبابه كما تفوهت به ألسنتهم الخبيثة ، واتفقت عليه قولبهم المنكوسة فقال : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } بهذه الجلمة التعليلية .
أى : إن لوطا وأتباعه أناس يتنزهون عن إتيان الرجال ، وعن كل عمل من أعمالنا لا يرونه مناسبا لهم . يقال : تطهر الرجل ، أى : تنزه عن الآثام والقبائح .
وما أعجب العقول عندما تنتكس ، والأخلاق عندما ترتكس ، إنها تستنكف أن يبقى معها الطهور المتعفف عن الفحش ، وتعمل على إخراجه ، ليبقى لها الملوثون الممسوخون وإنه لمنطق يتفق مع المنحرفين الذين انحطت طباعهم ، وانقلبت موازينهم ، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم فرأوه حسنا .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : وقولهم : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش ، وافتخار بما كانوا فيه من القذارة ، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد "
ونعود إلى قوم لوط ! فيتجلى لنا الانحراف مرة أخرى في جوابهم لنبيهم :
( وما كان جواب قومه إلا أن قالوا : أخرجوهم من قريتكم ، إنهم أناس يتطهرون ) !
يا عجباً ! أو من يتطهر يخرج من القرية إخراجاً ، ليبقى فيها الملوثون المدنسون ؟ !
ولكن لماذا العجب ؟ وماذا تصنع الجاهلية الحديثة ؟ أليست تطارد الذين يتطهرون ، فلا ينغمسون في الوحل الذي تنغمس فيه مجتمعات الجاهلية - وتسميه تقدمية وتحطيماً للأغلال عن المرأة وغير المرأة - أليست تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأموالهم وأفكارهم وتصوراتهم كذلك ؛ ولا تطيق أن تراهم يتطهرون ؛ لأنها لا تتسع ولا ترحب إلا بالملوثين الدنسين القذرين ؟ ! إنه منطق الجاهلية في كل حين ! !
أي : ما أجابوا لوطًا إلا أن هَموا بإخراجه ونفيه ومن معه [ من المؤمنين ]{[11953]} من بين أظهرهم ، فأخرجه الله تعالى سالما ، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين .
وقوله تعالى : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } قال قتادة ، عابوهم بغير عيب .
وقال مجاهد : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } من أدبار الرجال وأدبار النساء . ورُوي مثله عن ابن عباس أيضًا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُوَاْ أَخْرِجُوهُمْ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وما كان جواب قوم لوط للوط إذ وبخهم على فعلهم القبيح وركوبهم ما حرّم الله عليهم من العمل الخبيث إلا أن قال بعضهم لبعض : أخرجوا لوطا وأهله ولذلك قيل : أخرجوهم ، فجمع وقد جرى قبل ذكر لوط وحده دون غيره . وقد يحتمل أن يكون إنما جمع بمعنى : أخرجوا لوطا ومن كان على دينه من قريتكم ، فاكتفى بذكر لوط في أوّل الكلام عن ذكر أتباعه ، ثم جمع في آخر الكلام ، كما قيل : يا أيّها النّبِيّ إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ وقد بيّنا نظائر ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . إنّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهّرُونَ يقول : إن لوطا ومن تبعه أناس يتنزّهون عما نفعله نحن من إتيان الرجال في الأدبار .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا هانىء بن سعيد النخعي ، عن الحجاج ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد : إنّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهّرُونَ قال : من أدبار الرجال وأدبار النساء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مجاهد : إنّهُم أُناسٌ يَتطَهّرُونَ من أدبار الرجال وأدبار النساء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن الحجاج ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : إنّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهّرُونَ قال : يتطهرون من أدبار الرجال والنساء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : إنّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهّرُونَ قال : من أدبار الرجال ومن أدبار النساء .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إنّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهّرُونَ قال : يتحرّجون .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إنّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهّرُونَ يقول : عابوهم بغير غيب ، وذموهم بغير ذم .
عطفت جملة : { وما كان جواب قومه } على جملة : { قال لقومه } [ الأعراف : 80 ] . والتّقدير : وإذ ما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا إلخ ، والمعنى : أنّهم أفحموا عن ترويج شنعتهم والمجادلة في شأنها ، وابتدروا بالتّآمر على إخراج لوط عليه السّلام وأهله من القرية ، لأنّ لوطاً عليه السّلام كان غريباً بينهم وقد أرادوا الاستراحة من إنكاره عليهم شأن من يشعرون بفساد حالهم ، الممنوعين بشهواتهم عن الإقلاع عن سيّئاتهم ، المصمّمين على مداومة ذنوبهم ، فإنّ صدورهم تضيق عن تحمّل الموعظة ، وأسماعهم تصمّ لقبولها ، ولم يزل من شأن المنغمسين في الهوى تجهّم حلول من لا يشاركهم بينهم .
والجواب : الكلام الذي يقابل به كلام آخر : تقريراً ، أو ردّاً ، أو جزاء .
وانتصب قوله : { جواب } على أنّه خبر ( كان ) مقدّم على اسمها الواقععِ بعد أداة الاستثناء المفرغ ، وهذا هو الاستعمالُ الفصيحُ في مثل هذا التّركيب ، إذا كان أحد معمولي كان مصدراً منسبكاً من ( أنْ ) والفعلِ كما تقدّم في سورة آل عمران وسورة الأنعام ، ولذلك أجمعت القرءات المشهورة على نصب المعمول الأوّل .
والضّمير المنصوب في قوله : { أخرجوهم } عائد على محذوف عُلم من السّياق ، وهم لوط عليه السّلام وأهلُه : وهم زوجُه وابنتاه .
وجملة : { إنهم أناس يتطهرون } علّة للأمر بالإخراج ، وذلك شأن ( إنّ ) إذا جاءت في مقام لا شكّ فيه ولا إنكار ، بل كانت لمجرّد الاهتمام فإنَّها تفيد مُفاد فاء التّفريع وتدلّ على الربط والتّعليل .
والتّطهر تكلّف الطّهارة ، وحقيقتُها النّظافة ، وتطلق الطّهارة مجازاً على تزكية النّفس والحذر من الرذائل وهي المراد هنا ، وتلك صفة كمال ، لكن القوم لمّا تمرّدوا على الفسوق كان يعُدّون الكمال منافراً لطباعهم ، فلا يطيقون معاشرة أهل الكمال ، ويذمّون ما لهم من الكمالات فيُسمّونها ثقلاً ، ولذا وصَفُوا تنزه لوط عليه السّلام وآله تطهّراً ، بصيغة التكلّف والتصنُّع ، ويجوز أن يكون حكاية لما في كلامهم من التّهكّم بلوط عليه السّلام وآلِه ، وهذا من قلب الحقائق لأجل مشايعة العوائد الذّميمة ، وأهل المجون والانخلاع ، يسمّون المتعفّف عن سيرتهم بالتّائب أو نحو ذلك ، فقولهم : { إنّهم أناس يتطهرّون } قصدوا به ذمّهم .
وهُم قد علموا هذا التّطهر من خلق لوط عليه السّلام وأهله لأنّهم عاشروهم ، ورأوا سِيرتهم ، ولذلك جيء بالخبر جملة فعليّة مضارعيّة لدلالتها على أنّ التّطهر متكرّر منهم ، ومتجدّد ، وذلك أدعَى لمنافِرتهم طباعهم والغضب عليهم وتجهّم إنكار لوط عليه السّلام عليهم .