ثم هون عليه أمر إعراضهم فقال - تعالى - { وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ } . أى : ولو شاء الله عدم إشراكهم لما أشركوا ، ولكنه - سبحانه - لم يشأ ذلك لأنه جرت سنته برعاية الاستعدادات .
قال الآلوسى : وهذا دليل أهل السنة على أنه تعالى - لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه يمنعه عنه مع توجهه إليه ، ولكن بمعنى أنه - تعالى - لا يريده منه لسوء اختياره الناشىء من سوء استعداده " .
وقوله { وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أى : وما جعلناك عليهم حفيظا يحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم وتجازيهم عليها وما أنت عليهم بوكيل تدبر عليهم أمورهم وتتصرف فيها ، وإنما أنت وظيفتك التبليغ قال - تعالى - { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } { وَعَلَيْنَا الحساب } وقال - تعالى - { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ }
ولو شاء الله أن يلزمهم الهدى لألزمهم ، ولو شاء أن يخلقهم ابتداء لا يعرفون إلا الهدى كالملائكة لخلقهم . ولكنه سبحانه خلق الإنسان بهذا الاستعداد للهدى وللضلال ، وتركه يختار طريقه ويلقى جزاء الاختيار - في حدود المشيئة المطلقة التي لا يقع في الكون إلا ما تجري به ، ولكنها لا ترغم إنسانا على الهدى أو الضلال - وخلقه على هذا النحو لحكمة يعلمها ؛ وليؤدي دوره في هذا الوجود كما قدره الله له . باستعداداته هذه وتصرفاته :
( ولو شاء الله ما أشركوا ) . .
وليس الرسول [ ص ] مسؤولا عن عملهم ، وهو لم يوكل بقلوبهم فالوكيل عليها هو الله :
( وما جعلناك عليهم حفيظا ، وما أنت عليهم بوكيل ) . .
وهذا التوجيه لرسول الله [ ص ] يحدد المجال الذي يتناوله اهتمام الرسول [ ص ] وعمله : كما يحدد هذا المجال لخلفائه وأصحاب الدعوة إلى دينه في كل أرض وفي كل جيل . .
إن صاحب الدعوة لا يجوز أن يعلق قلبه وأمله وعمله بالمعرضين عن الدعوة ، المعاندين ، الذين لا تتفتح قلوبهم لدلائل الهدى وموحيات الإيمان . . إنما يجب أن يفرغ قلبه ، وأن يوجه أمله وعمله للذين سمعوا واستجابوا . فهؤلاء في حاجة إلى بناء كيانهم كله على القاعدة التي دخلوا الدين عليها . . قاعدة العقيدة . . وفي حاجة لإنشاء تصور لهم كامل عميق عن الوجود والحياة على أساس هذه العقيدة . وفي حاجة إلى بناء أخلاقهم وسلوكهم ؛ وبناء مجتمعهم الصغير على هذا الأساس نفسه . وهذا كله يحتاج إلى الجهد . ويستحق الجهد . فأما الواقفون على الشق الآخر ، فجزاؤهم الإهمال والإعراض بعد الدعوة والبلاغ . . وحين ينمو الحق في ذاته فإن الله يجري سنته ، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق . . إن على الحق أن يوجد ومتى وجد الحق في صورته الصادقة الكاملة ، فإن شأن الباطل هين ، وعمره كذلك قريب !
واعلم أن لله حكمة في إضلالهم ، فإنه لو شاء لهدى الناس كلهم جميعا [ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ]{[11031]}
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا } أي : بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
وقوله : { وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } أي : حافظا تحفظ أعمالهم وأقوالهم { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } أي : موكل على أرزاقهم وأمورهم { إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ } كما قال تعالى : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 21 ، 22 ] ، وقال { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ]
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما أشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيهِمْ حَفِيظاً وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ .
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أعرض عن هؤلاء المشركين بالله ، ودع عنك جدالهم وخصومتهم ومسابّتهم . وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما أشْرَكُوا يقول : لو أرادوا بك هدايتهم واستنقاذهم من ضلالتهم للطف لهم بتوفيقه إياهم فلم يشركوا به شيئاً ولا آمنوا بك فاتبعوك وصدّقوا ما جئتهم به من الحقّ من عند ربك . وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً يقول جلّ ثناؤه : وإنما بعثتك إليهم رسولاً مبلغاً ، ولم نبعثك حافظاً عليهم ما هم عاملوه وتحصي ذلك عليهم ، فإن ذلك إلينا دونك . وَما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ يقول : ولست عليهم بقيم تقوم بأرزاقهم وأقواتهم ، ولا بحفظهم فيما لم يجعل إليك حفظه من أمرهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما أشْرَكُوا يقول سبحانه : لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين .
وقوله تعالى : { ولو شاء الله ما أشركوا } في ظاهرها رد على المعتزلة القائلين إنه ليس عند الله لطف يؤمن به الكافر وإن الكافر والإنسان في الجملة يخلق أفعاله ، وهي متضمنة أن إشراكهم وغيره وقف على مشيئة الله عز وجل ، وقوله تعالى : { وما جعلناك عليهم حفيظاً } كان في أول الإسلام ، وكذلك { وما أنت عليهم بوكيل } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.