اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكُواْۗ وَمَا جَعَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗاۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡهِم بِوَكِيلٖ} (107)

قوله : " ولوْ شَاء اللَّه " مفعول المشيئة مَحْذُوف ، أي : " لو شَاءَ اللَّه إيمانَهُم " وقد تقدَّم أنه لا يُذْكر إلا لِغَرَابتِه ، والمعنى : لا تلتفتْ إلى سَفَاهَات هؤلاء الكُفَّار ، فإنّي لو أرَدْت إزالَة الكُفْرِ عنهم ، لَقَدَرْت ، ولكنِّي تركْتُهم مع كُفْرِهم ، فلا يَشْتَغِل قلبك بِكلماتِهم{[14902]} .

وتمسَّك أهل السُّنَّة بقوله -تعالى- : { وَلَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكُواْ } والمعنى : لو شَاءَ ألاَّ يُشْرِكوا ، ما أشْرَكوا ، وحيث لَمْ يَحْصُلِ الجَزَاء ، لم يَحْصُل الشَّرْط .

وقالت المُعتزلَة : ثبت بالدَّلِيل أنَّه -تعالى- أراد مِنَ الكُلِّ الإيمان ، وما شَاءَ من أحدٍ الكُفْر ، وهذه الآية الكريمة تَقتَضِي : أنَّه -تعالى- ما شَاءَ من الكُلِّ الإيمانَ ؛ فوجب التَّوفيق بين الدَّليليْن ، فيجعل مَشِيئةِ اللَّه لإيمانهم ، على مَشِيئة الإيمان الاخْتِيَاريِّ الموجبِ للثُّواب ، ويحمل عدم مشيئته لإيمانِهِم ، على الإيمان الحاصِل بالقَهْر والجَبْر ، يعني : أنه - تبارك وتعالى- ما شاء منهم أن يَحْمِلَهُم على الإيمان على سبيل القَهْر والإلْجَاء ؛ لأنَّ ذلك يُبْطِل التَّكْليف ، ويخرج الإنْسَان عن اسْتِحقاق الثَّواب .

والجواب من وُجُوهٍ :

أحدها : أنه -تبارك وتعالى- ما شَاءً مِنْهُم أن يَحْمِلَهم على الإيمان على سَبِيل القَهْر وهو الذي أقْدَر الكَافِر على الكُفْر فَقُدْرَةُ الكُفْر إن لم تَصْلُح للإيمان ، فخالِقُ تلك القُدْرَة لا شكَّ أنه كان مُريداً للكُفْر ، فإن كان صَالِحة للإيمان ، لَمْ يَتَرجَّحْ جانب الكُفْرعلى جَانِب الإيمان ، إلاَّ عند حصولِ داعٍ يَدْعُو إلى الإيمان ، وإلاَّ لَزِم رُجْحان أحد طرَفِي المُمْكِن على الآخر [ لا ]{[14903]} لمرجِّح . وهو مُحَالٌ ، ومَجْمُوع القُدْرَة مع الدَّاعِي إلى الكُفْر ، يُوجِب الكُفْرَ ، فإذا كان خالِق القُدْرة والدَّاعِي هو اللَّه-تعالى- ، وثبت أنَّ مَجْمُوعَهما يوجِبُ الكُفْر ، ثبت أنَّ الله -تعالى- أراد الكُفْر من الكافِرِ .

وثانيها : أنَّ الله -تبارك وتعالى- كان عالماً بعدم الإيمان من الكَافِر ، ووجُود الإيمَان مع العِلْم بِعدم الإيمان مُتضَادَّانِ ، ومع وُجودِ أحَد الضِّدَّيْن كان حُصُول الضدِّ الثاني محالاً ، مع العِلْمِ بِكَوْنه محالاً غير مُرَادِ ، فامْتَنَع أن يُقال : إنه -تعالى- يريد الإيمان من الكافر .

وثالثها : هَبْ أن الإيمان الاخْتِيَاري أفْضلُ وأنْفع من الإيمان الحَاصِل بالجَبْر والقَهْر ، إلاَّ أنَّه- تعالى لما عَلِم أنَّ ذلك النَّفْع لا يَحْصُل ألْبَتَّةَ ، فقد كان يَجِبُ في رَحْمَته وحكمته ، أن يخلق فيهم الإيمان على سَبِيل الإلْجَاء ؛ لأن هذا الإيمان وإن كان لا يُوجِب الثُّواب العظيم ، فأقَل ما فيه أن يُخَلِّصَه من العِقَاب العَظيم ، وتَرْك إيجَاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلْجَاء ، يُوجِب وقوعَهُ في أشَدِّ العذاب ، وذلك لا يَلِيقُ بالرَّحمة والإحْسان ، كما إنَّ الوالد إذا كان له ولدٌ عزيزٌ ، وكان الأبُ في غَاية الشَّفَقَة ، وكان الولدُ واقفاً على طَرف البَحْر ، فيَقُول له الوالد : غُصْ في قَعْر هذا البَحْر ؛ لتَسْتَخْرِج اللآلِئ العظيمة الرَّفيعة الغَالِية ، وعلِم الوالد قَطْعاً أنَّه إذا غَاصَ في البَحْر ، هلك ، فهذا الأب وإن كان مشفقا عليه ، وجب عليه أن يمنعه من الغوص في قعر البحر ، ويقول له : أترك طلب اللآلِئ ، فإنَّك لا تَجِدُها وتَهْلَك ، والأوْلى لك أن تَكْتَفِي بالرِّزق القَلِيل مع السَّلامة ، فأما أنْ يَأمُرَه في قَعْر البحر مع تيقّن الهلاك ، فهذا يدلُّ على عَدَم الرَّحْمة ؛ وكذا هَهُنَا{[14904]} .

قوله : " وَمَا جَعَلْنَاكَ " " جعل " بمعنى : صيَّر فالكافُ مَفْعُول أول ، و " حفيظا " هو الثاني ، و " عليهم " متعلق به ، قدّم للاهتمام أو للفواصل ، ومفعول " حَفِيظ " مَحْذُوف ، أي : " حفيظاً عليهم أعْمالهم " .

قال أبُو البقاء{[14905]} : " هذا يُؤيِّد قَوْل سيبويه{[14906]} في إعْمَال فَعِيل " يعني : أنه مِثالُ مُبالَغة ، وللنَّاس في إعْمَاله وإعْمَاله وإعْمَال فعل خلاف أثْبَتَهُ سِيبويْه ، ونفاه غَيْرُه .

[ قال شهاب الدين{[14907]} ]{[14908]} : يُؤيِّده وليْس شيءٌ في اللَّفْظ يَشْهَد لَهُ ؟

قوله : " وَمَا أنْتَ " يجُوز أن تَكُون " مَا " الحجازية ، فيكُون " أنْتَ " : اسْمُهاَ ، و " بوكيل " : خبرها في مَحَلِّ نصْب ، ويجُوز أن تكُون التَّمِيميَّة ؛ فيكون " أنْتَ " : مبتدأ و " بوكيل " : خَبَره في محلِّ رفع ، والباءُ زائدة على كلا التَّقْديرين ، و " عليهم " : متعلِّق بوكيل قُدِّم لما فيما قَبْلَه ، وهذه الجُمْلَة هي في مَعْنى الجملة قَبْلَها ؛ لأن معنى ما أنْت وَكِيلٌ عليهم ، وهو بِمَعْنَى : ما جَعَلْنَاكَ حفيظاً عليهم ، أي : رقيباً .

واعلم أنه -تبارك وتعالى- لما بيَّن أن لا قُدْرَةَ لأحد على إزالة الكُفْر عَنْهُم ، ختم الكلام بما يَكْمُل معه تَبْصير الرَّسُوال ؛ لأنَّه لما بيَّن له قَدْر مَا جَعَل إلَيْه ، فذكر أنَّه ما جَعَله عليْهم حَفِيظاً ولا وَكِيلاً ، وإنَّما فوَّض إليه البَلاغ بالأمْر ، والنَّهْي ، البَيَان بذكر الدَّلائل ، فإن انْقَادُوا للقَبُول ، فنفعه عَائِدٌ إلَيْهم ، وإلا فضرَرُه عَائِدٌ إليهم .

قال عطاء : وما جَعَلْنَاك علهيم حَفِيظاً : تمنعهم منِّي ، أي : لم تُبْعَثْ لِتَحْفَظ المُشْرِكين من العذاب ، إنما بُعِثْت مُبَلِّغاً ، وما أنت عليهم بِوَكيل على سَبيل المَنْع لَهُم .


[14902]:ينظر: الرازي 13/113.
[14903]:سقط في أ.
[14904]:ينظر: الرازي 13/114.
[14905]:ينظر: الإملاء 1/257.
[14906]:ينظر: الكتاب 2/255.
[14907]:ينظر: الدر المصون 3/153.
[14908]:سقط في أ.