وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } روايات منها ، ما رواه ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال : " كانت فارس ظاهرة على الروم . وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت : { الاما غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } قالوا : يا أبا بكر . إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فراس فى بضع سنين : قال : صدق . قالوا هل لك أن نقامرك ؟ - أى : نراهنك وكان ذلك قبل تحريم الرهان - فبايعوه على أربع فلائص - جمع قلوص ، وهى من الإِبل : اشابة - إلى سبع سنين . فمضت السبع ولميكن شئ . ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين ، فذكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : ما بضع سنين عندكم ؟ قالوا : دون العشر .
قال : اذهب فزايدهم ، وازدد سنتين فى الأجل . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك " .
وقال بعض العلماء : اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على ان ملك فارس كان قد غزا بلاد الشام مرتين : فى سنة 613 ، وفى سنة 614 ، أى : قبل الهجرة بسبع سنين ، فحدث أن بلغ الخبر مكة . ففرح المشركون ، وشتموا فى المسلمين . . فنزلت هذه الآيات .
فلم يمض من البضع - وهو ما بين الثلاث إلى التسع - سبع سنين ، إلا وقد انتصر الروم على الفرس ، وكان ذلك سنة 621م . أى : قبل الهجرة بسنة .
وأدنى بمعنى أقرب . والمراد بالأرض : أرض الروم .
أى : غلبت الروم فى أقرب أرضها من بلاد الفرس .
قال ابن كثير : وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم ، حين غلبت الروم ، بين أذرعات وبصرى ، - على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما - ، وهى طرف بلاد الشام ممايلى الحجاز .
وقال مجاهد : كان ذلك فى الجزيرة ، وهى أقرب بلاد الروم من فارس .
وقال الآلوسى : والمراد بالأرض . أرض الروم ، على أن " أل " نائبة مناب الضمير المضاف إليه ، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة ، لأن الكلام معهم .
أو المراد أرض مكة ونواحيها ، لأنها الأرض المعهودة عندهم ، والأقربية بالنظر إلى الروم .
وقوله - تعالى - : { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } بشارة من الله - تعالى - للمؤمنين ، بأن الله - تعالى - سيحقق لهم ما يرجونه من انتصار الروم على الفرس .
أى وهم - أى الروم - من بعد هزيمتهم من الفرس ، سينتصرون عليهم ، خلال بضع سنين .
والتعبير بقوله - تعالى - : { سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، لتأكيد هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمر الأمم ، وقد تحقق هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمرا لأمم ، وقد تحقق هذا الوعد على أكمل صورة وأتمها ، فقد انتصر الروم على الفرس نصرا عظيما ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - حيث أخبر عن أمور ستقع فى المستقبل ، وقد وقعت كما أخبر .
وقوله - سبحانه - : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } جملة معترضة لبيان قدرة الله - تعالى - التامة النافذة ، فى كل وقت وآن . أى : لله - تعالى - وحده الأمر النافذ من قبل انتصار الفرس على الروم ، ومن بعد انتصار الروم على الفرس : وكلا الفريقين كان نصره أو هزيمته بإرادة الله ومشيئته ، وليس أحد من الخلق أن يخرج عما قدره - سبحانه - وأراده .
{ وَيَوْمَئِذٍ } أى : ويوم أن يتغلب الروم على الفرس { يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله } حيث نصر أهل الكتاب وهم الروم ، على من لا كتاب لهم وهم الفرس ، الذين كانوا يعبدون النار فأبطل - سبحانه - بهذا النصر شماتة المشركين فى المسلمين ، وازنداد المؤمنون ثبتاتا على ثباتهم .
قال ابن كثير : وقد كانت نصرة الروم على فارس ، يوم وقعة بدر ، فى قول طائفة كبيرة من العلماء . . فلما انتصرت الروم على فارس ، فرح المؤمنون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب فى الجملة ، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس .
وقوله - سبحانه - : { يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم } مؤكد لما قبله . أى : ينصر - سبحانه - من يريد نصره ، ويهزم من يريد هزيمته ، وهو ، العزيز الذى لا يغلبه غالب ، الرحيم الذى وسعت رحمته كل شئ .
ثم زاد - سبحانه - هذا الأمر تأكيدا وتقوية فقال : { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } .
ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين . وقد روى ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : كانت فارس ظاهرة على الروم . وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ و كان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم . فلما نزلت : الم . غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، في بضع سنين . قالوا : يا أبا بكر . إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين . قال : صدق . قالوا : هل لك أن نقامرك ? فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين . فمضت السبع ولم يكن شيء . ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين فذكر ذلك للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " ما بضع سنين عندكم ? " قالوا : دون العشر . قال : " اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل " . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس . ففرح المؤمنون بذلك .
وقد وردت في هذا الحادث روايات كثيرة اخترنا منها رواية الإمام ابن جرير . وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية .
وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان . ومع أن الدول قديما لم تكن شديدة الاتصال ، والأمم لم تكن وثيقة الاربتاط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر . مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم ؛ وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب ، وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان ؛ وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم ، ويؤثر في قضية الكفر والإيمان .
وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا ؛ ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . منذ حوالي أربعة عشر قرنا . ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية ؛ ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان ؛ وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان .
وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة ، وحقيقة القضية ؛ فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر ، فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة ، مهما تنوعت العلل والأسباب .
والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله ، كما تبدو في قولة أبي بكر - رضي الله عنه - في غير تلعثم ولا تردد ، والمشركون يعجبونه من قول صاحبه ؛ فما يزيد على أن يقول : صدق . ويراهنونه فيراهن وهو واثق . ثم يتحقق وعد الله ، في الأجل الذي حدده : ( في بضع سنين ) . . وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينا وثباتا في وجه العقبات والآلام والمحن ، حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله . وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل .
والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر ، من قول الله سبحانه : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) . . والمسارعة برد الأمر كله لله . في هذا الحادث وفي سواه . وتقرير هذه الحقيقة الكلية ، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف . فالنصر والهزيمة ، وظهور الدول ودثورها ، وضعفها وقوتها . شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال ، مرده كله إلى الله ، يصرفه كيف شاء ، وفق حكمته ووفق مراده . وما الأحداث والأحوال إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة ، التي ليس لأحد عليها من سلطان ؛ ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة ؛ ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله . و إذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدر مرسوم .
( ألم . غلبت الروم في أدنى الأرض . وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) . .
( لله الأمر من قبل ومن بعد ) . .
( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) . .
ولقد صدق وعد الله ، وفرح المؤمنون بنصر الله .
( ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم ) . .
فالأمر له من قبل ومن بعد . وهو ينصر من يشاء . لا مقيد لمشيئته سبحانه . والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب . فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب . والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة . وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف ؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات . والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات ، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة .
والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال . فهي ترد الأمر كله إلى الله . ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع . أما أن تتحقق تلك النتائج فعلا أو لا تتحقق فليس داخلا في التكليف ، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله . ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ودخل يصلي قائلا : توكلت على الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعقلها وتوكل " . فالتوكل في العقيدة الإسلامية مقيد بالأخذ بالأسباب ، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله .
( ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم ) . .
فهذا النصر محفوف بظلال القدرة القادرة التي تنشئه وتظهره في عالم الواقع ؛ وبظلال الرحمة التي تحقق به مصالح الناس ؛ وتجعل منه رحمة للمنصورين والمغلوبين سواء . ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )وصلاح الأرض رحمة للمنتصرين والمهزومين في نهاية المطاف .
وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وهم أبناء عم بني إسرائيل ، ويقال لهم : بنو الأصفر . وكانوا على دين اليونان ، واليونان من سلالة يافث بن نوح ، أبناء {[22746]} عم الترك . وكانوا يعبدون الكواكب السيارة السبعة ، ويقال لها : المتحيرة ، ويصلون إلى القطب الشمالي ، وهم الذين أسسوا دمشق ، وبنوا معبدها ، وفيه محاريب إلى جهة الشمال ، فكان{[22747]} الروم على دينهم إلى مبعث المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة ، وكان من ملك الشام مع الجزيرة منهم يقال له : قيصر . فكان أول من دخل في دين النصارى من الملوك قسطنطين بن قسطس ، وأمه مريم الهيلانية الشدقانية{[22748]} من أرض حران ، كانت قد تنصرت قبله ، فدعته إلى دينها ، وكان قبل ذلك فيلسوفا ، فتابعها - يقال : تَقِيَّة - واجتمعت به النصارى ، وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس ، واختلفوا اختلافا [ كثيرًا ]{[22749]} منتشرا متشتتا لا ينضبط ، إلا أنه اتفق من جماعتهم{[22750]} ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًا ، فوضعوا لقسطنطين العقيدة ، وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة ، وإنما هي الخيانة الحقيرة ، ووضعوا له القوانين - يعنون كتب الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وغَيَّروا دين المسيح ، عليه السلام ، وزادوا فيه ونقصوا منه . وفصلوا إلى المشرق{[22751]} واعتاضوا عن السبت بالأحد ، وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير . واتخذوا أعيادًا أحدثوها كعيد الصليب والقداس{[22752]} والغطاس ، وغير ذلك من البواعيث والشعانين ، وجعلوا له الباب وهو كبيرهم ، ثم البتاركة ، ثم المطارنة ، ثم الأساقفة والقساقسة ، ثم الشمامسة . وابتدعوا الرهبانية . وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد ، وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية ، يقال : إنه بنى في أيامه{[22753]} اثني عشر ألف كنيسة ، وبنى بيت لحم بثلاثة{[22754]} محاريب ، وبنت أمه القمامة ، وهؤلاء هم الملكية ، يعنون الذين هم على دين الملك .
ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الإسكاف ، ثم النسطورية أصحاب نسطورا ، وهم فرق وطوائف كثيرة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة " . {[22755]} والغرض أنهم استمروا على النصرانية ، كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده ، حتى كان آخرهم هرقل . وكان من عقلاء الرجال ، ومن أحزم الملوك وأدهاهم ، وأبعدهم غورا وأقصاهم رأيا ، فتمَلَّكَ عليهم في رياسَة عظيمة وأبهة كبيرة ، فناوأه كسرى ملك الفرس ، ومَلكَ البلاد كالعراق وخراسان والرّي ، وجميع بلاد العجم ، وهو سابور ذو الأكتاف . وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر ، وله رياسة العجم وحماقة الفرس ، وكانوا مجوسا يعبدون النار . فتقدم عن عكرمة أنه بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه ، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكَسَره وقصره ، حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية . فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه ، وكانت النصارى تعظمه تعظيما زائدا ، ولم يقدر كسرى على فتح البلد ، ولا أمكنه ذلك لحصانتها ؛ لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من{[22756]} ناحية البحر ، فكانت تأتيهم الميرة والمَدَد من هنالك . فلما طال الأمر دبر قيصر مكيدة ، ورأى في نفسه خديعة ، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه ، ويشترط عليه ما شاء . فأجابه إلى ذلك ، وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا{[22757]} ، من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة . فطاوعه قيصر ، وأوهمه أن عنده جميع ما طلب ، واستقل عقله لما طلب منه ما طلب ، ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عُشْره ، وسأل كسرى أن يُمكّنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته ، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه ، فأطلق سراحه ، فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينية ، جمع أهل ملته وقال : إني خارج في أمر قد أبرمته ، في جند قد عينته من جيشي ، فإن رجعت إليكم قبل الحول فأنا ملككم ، وإن لم أرجع إليكم قبلها فأنتم بالخيار ، إن شئتم استمررتم على بيعتي ، وإن شئتم وليتم عليكم غيري . فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيا ، ولو غبت عشرة أعوام . فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط ، هذا وكسرى مُخَيّم على القسطنطينية ينتظره ليرجع ، فركب قيصر من فوره وسار مسرعا حتى انتهى إلى بلاد فارس ، فعاث في بلادهم قتلا لرجالها ومن بها من المقاتلة ، أولا فأولا ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن ، وهي كرسي مملكة كسرى ، فقتل من بها ، وأخذ جميع حواصله وأمواله ، وأسر نساءه وحريمه ، وحلق رأس ولده ، ورَكّبه على حمار وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة ، وكتب إلى كسرى يقول : هذا ما طلبت فخُذه . فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله عز وجل ، واشتد حنقه على البلد ، فاشتد{[22758]} في حصارها بكل ممكن فلم يقدر على ذلك . فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون ، التي لا سبيل{[22759]} لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها ، فلما علم قيصر بذلك احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها ، وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة ، وركب في بعض الجيش ، وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث فحملت معه ، وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعدا ، ثم أمر بإلقاء تلك الأحمال في النهر ، فلما مرت بكسرى ظن هو وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك ، فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس ، وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض في الخوض ، فخاضوا وأسرعوا السير ففاتوا كسرى وجنوده ، ودخلوا القسطنطينية . وكان ذلك يوما مشهودًا عند النصارى ، وبقي كسرى وجيوشه {[22760]} حائرين لا يدرون ماذا يصنعون . لم يحصلوا على بلاد قيصر ، وبلادُهم قد خَرّبتها الروم وأخذوا حواصلهم ، وسبوا ذراريهم ونساءهم . فكان هذا من غَلب الروم فارسَ ، وكان ذلك بعد تسع{[22761]} سنين من غلب الفرس للروم{[22762]} .
وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبُصرى ، على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما ، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز .
وقال مجاهد : كان ذلك في الجزيرة ، وهي أقرب بلاد الروم من فارس ، فالله{[22763]} أعلم .
ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين ، وهي تسع ؛ فإن البِضْعَ في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع . وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي ، وابن جرير وغيرهما ، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الجُمَحي ، عن الزهري ، عن عبُيَد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مُنَاحَبَة{[22764]} { الم غُلِبَتِ الرُّومُ } ألا احتطت يا أبا بكر ، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ؟ " ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه{[22765]} .
وروى ابن جرير ، عن عبد الله بن عمرو : أنه قال ذلك{[22766]} .