ثم بين - سبحانه - صفات عباده المؤمنين الصادقين فقال : { إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أولئك هُمُ الصادقون } .
أى : إنما المؤمنون حق الإِيمان وأكمله ، هم الذين آمنوا بالله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - { ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } أى : لم يدخل قلوبهم شئ من الريبة أو الشك فيما أخبرهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .
وأتى - سبحانه - بثم التى للتراخى ، للتنبيه على أن نفى الريب عنهم ليس مقصوار على وقت إيمانهم فقط ، بل هو مستمر بعد ذلك إلى نهاية أجالهم ، فكأنه - سبحانه - يقول : إنهم آمنوا عن يقين ، واستمر معهم هذا اليقين إلى النهاية .
ثم أتبع ذلك ببيان الثمار الطيبة التى ترتبت على هذا الإيمان الصادق فقال : { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } .
أى : وبذلوا من أجل إعلاء كلمة الله - تعالى - ، ومن أجل دينه أموالهم وأنفسهم .
قال الآلوسى : وتقديم الأموال على الأنفس من باب الترقى من الأدنى إلى الأعلى . ويجوز بأن يقال : قدم الأمول لحرص الكثيرين عليها ، حتى إنهم يهلكون أنفسهم بسببها . .
{ أولئك هُمُ الصادقون } أى : أولئك الذين فعلوا ذلك هم الصادقون فى إيمانهم .
( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله . ثم لم يرتابوا . وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله . أولئك هم الصادقون ) .
فالإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله . التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب . التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب ، ولا تهجس فيه الهواجس ، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور . والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله . فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه ، لا بد مندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب . في واقع الحياة . في دنيا الناس . يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان ، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة . ولا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية التي في حسه ، والصورة الواقعية من حوله . لأن هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كل لحظة . ومن هنا هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس . فهو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن . يريد به أن يحقق الصورة الوضيئة التي في قلبه ، ليراها ممثلة في واقع الحياة والناس والخصومة بين المؤمن وبين الحياة الجاهلية من حوله خصومة ذاتية ناشئة من عدم استطاعته حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني ، وواقعه العملي . وعدم استطاعته كذلك التنازل عن تصوره الإيماني الكامل الجميل المستقيم في سبيل واقعه العملي الناقص الشائن المنحرف . فلا بد من حرب بينه وبين الجاهلية من حوله ، حتى تنثني هذه الجاهلية إلى التصور الإيماني والحياة الإيمانية .
( أولئك هم الصادقون ) . . الصادقون في عقيدتهم . الصادقون حين يقولون : إنهم مؤمنون . فإذا لم تتحقق تلك المشاعر في القلب ، ولم تتحقق آثارها في واقع الحياة ، فالإيمان لا يتحقق . والصدق في العقيدة وفي ادعائها لا يكون .
ونقف قليلا أمام هذا الاحتراس المعترض في الآية : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله - ثم لم يرتابوا - ) . . إنه ليس مجرد عبارة . إنما هو لمس لتجربة شعورية واقعية . وعلاج لحالة تقوم في النفس . حتى بعد إيمانها . . ( ثم لم يرتابوا )وشبيه بها الاحتراس في قوله تعالى . . ( إن الذين قالوا ربنا الله . . ثم استقاموا . . )فعدم الارتياب . والاستقامة على قولة : ربنا الله . تشير إلى ما قد يعتور النفس المؤمنة - تحت تأثير التجارب القاسية ، والابتلاءات الشديدة - من ارتياب ومن اضطراب . وإن النفس المؤمنة لتصطدم في الحياة بشدائد تزلزل ، ونوازل تزعزع . والتي تثبت فلا تضطرب ، وتثق فلا ترتاب ، وتظل مستقيمة موصولة هي التي تستحق هذه الدرجة عند الله .
والتعبير على هذا النحو ينبه القلوب المؤمنة إلى مزالق الطريق ، وأخطار الرحلة ، لتعزم أمرها ، وتحتسب ، وتستقيم ، ولا ترتاب عندما يدلهم الأفق ، ويظلم الجو ، وتناوحها العواصف والرياح !
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلََئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره للأعراب الذين قالوا آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم : إنما المؤمنون أيها القوم الذين صدّقوا الله ورسوله ، ثم لم يرتابوا ، يقول : ثم لم يشكوا في وحدانية الله ، ولا في نبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وألزم نفسه طاعة الله وطاعة رسوله ، والعمل بما وجب عليه من فرائض الله بغير شكّ منه في وجوب ذلك عليه وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يقول : جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم ، وبذل مُهَجِهم في جهادهم ، على ما أمرهم الله به من جهادهم ، وذلك سبيله لتكون كلمة الله العليا ، وكلمة الذين كفروا السفَلى .
وقوله : أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ يقول : هؤلاء الذين يفعلون ذلك هم الصادقون في قولهم : إنا مؤمنون ، لا من دخل في الملة خوف السيف ليحقن دمه وماله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقونَ قال : صدّقوا إيمانهم بأعمالهم .
{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة ، وفيه إشارة إلى ما أوجب نفي الإيمان عنهم ، و { ثم } للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس حال الإيمان فقط بل فيه وفيما يستقبل فهي كما في قوله : { ثم استقاموا } . { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } في طاعته والمجاهدة بالأموال والأنفس تصلح للعبادات المالية والبدنية بأسرها . { أولئك هم الصادقون } الذين صدقوا في ادعاء الإيمان .
هذا تعليل لقوله : { لم تؤمنوا } إلى قوله : { في قلوبكم } وهو من جملة ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للأعراب ، أي ليس المؤمنون إلا الذين آمنوا ولم يخالط إيمانهم ارتياب أو تشكك .
و ( إنما ) للحصر ، و ( إنّ ) التي هي جُزء منها مفيدة أيضاً للتعليل وقائمة مقام فاء التفريع ، أي إنما لم تكونوا مؤمنين لأن الإيمان ينافيه الارتياب .
والقصر إضافي ، أي المؤمنون الذين هذه صفاتهم غير هؤلاء الأعراب .
فأفاد أن هؤلاء الأعراب انتفى عنهم الإيمان لأنهم انتفى عنهم مجموع هذه الصفات .
وإذ قد كان القصر إضافياً لم يكن الغرض منه إلاّ إثبات الوصف لغير المقصور لإخراج المتحدث عنهم عن أن يكونوا مؤمنين ، وليس بمقتض أن حقيقة الإيمان لا تتقوم إلا بمجموع تلك الصفات لأن عد الجِهاد في سبيل الله مع صفتي الإيمان وانتفاء الريب فيه يمنع من ذَلك لأن الذي يقعُد عن الجهاد لا ينتفي عنه وصف الإيمان إذ لا يكفَّر المسلم بارتكاب الكبائر عند أهل الحق . وما عداه خطأ واضح ، وإلا لانتقضت جامعة الإسلام بأسرها إلا فئة قليلة في أوقات غير طويلة .
والمقصود من إدماج ذكر الجهاد التنويه بفضل المؤمنين المجاهدين وتحريض الذين دخلوا في الإيمان على الاستعداد إلى الجهاد كما في قوله تعالى : { قل للمخلفين من الأعراب ستُدْعَون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يُسلمون } الآية [ الفتح : 16 ] .
و ( ثم ) من قوله : { ثم لم يرتابوا } للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجمل . ففي ( ثم ) إشارة إلى أن انتفاء الارتياب في إيمانهم أهم رتبةً من الإيمان إذ به قوامُ الإيمان ، وهذا إيماء إلى بيان قوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] ، أي من أجل ما يخالجكم ارتياب في بعض ما آمنتم به مما اطلّع الله عليه .
وقوله : { أولئك هم الصادقون } قصر ، وهو قصر إضافي أيضاً ، أي هم الصادقون لا أنتم في قولكم { آمناً } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن المؤمنين فنعتهم لقول هؤلاء الأعراب" آمنا"، فقال: {إنما المؤمنون} المصدقون في إيمانهم {الذين آمنوا} يعني صدقوا {بالله} بأنه واحد لا شريك له {ورسوله} محمد صلى الله عليه وسلم أنه نبي رسول وكتابه حق {ثم لم يرتابوا} يعني لم يشكوا في دينهم بعد الإيمان {وجاهدوا} العدو مع النبي صلى الله عليه وسلم {بأموالهم وأنفسهم} يعني باشروا القتال بأنفسهم {في سبيل الله} يعني في طاعة الله {أولئك هم الصادقون} في إيمانهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للأعراب الذين قالوا آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم: إنما المؤمنون أيها القوم الذين صدّقوا الله ورسوله، ثم لم يرتابوا، يقول: ثم لم يشكوا في وحدانية الله، ولا في نبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وألزم نفسه طاعة الله وطاعة رسوله، والعمل بما وجب عليه من فرائض الله بغير شكّ منه في وجوب ذلك عليه" وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ "يقول: جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم، وبذل مُهَجِهم في جهادهم، على ما أمرهم الله به من جهادهم، وذلك سبيله لتكون كلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا السفَلى.
وقوله: "أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ" يقول: هؤلاء الذين يفعلون ذلك هم الصادقون في قولهم: إنا مؤمنون، لا من دخل في الملة خوف السيف ليحقن دمه وماله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ويحتمل {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} أي صدّقوا الله ورسوله سرا وعلانية على الحقيقة، لا الذين أظهروا الإيمان ولم تكن قلوبهم مصدِّقة لذلك كالمنافقين. ألا ترى أنه قال: {ثم لم يرتابوا وجاهدوا} أي لم يشكّوا في حادث الوقت، بل جاهدوا {بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} إظهارا لتحقيق الإيمان وصدقه، وليسوا كالمنافقين الذين ارتابوا، وشكّوا في إيمانهم، وتخلّفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
جَعَلَ اللَّهُ الإيمانَ مشروطاً بخصالٍ ذَكَرَها، ونَصَّ عليها بلفظ {إِنَّمَا} وهي للتحقيق الذي يقتضي طَرْدَ العِكْسِ؛ فمَنْ خَرَج عن هذه الشرائط التي جَعَلَها للإِيمان فمردودٌ عليه قَوْلُه. والإيمانُ يوجِبُ للعبد الأَمان، فما لم يكن الإيمان موجِباً للأَمانِ فصاحبُه بغيره أَوْلَى.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
- الإيمان بالله وبرسوله من غير ارتياب هو قوة اليقين، وهو ثمرة العقل ومنتهى الحكمة، والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة، والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوة الغضب على شرط العقل وحد الاعتدال، فقد وصف الله تعالى الصحابة فقال: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} إشارة إلى أن للشدة موضعا، فليس الكمال في الشدة بكل حال، ولا في الرحمة بكل حال. (الإحياء: 3/60)
فدل ب "الإيمان بالله ورسوله " على نفي الارتياب وعلى العلم اليقيني والحكمة التي لا يتصور حصولها إلا بإصلاح قوة الفكر. ودل بالمجاهدة بالأموال على العفة والجود اللذين هما تابعان بالضرورة لإصلاح الشهوة. ودل بالمجاهدة بالنفس على الشجاعة والحلم، اللذين هما تابعان لإصلاح الحمية وإسلامها للدين والعقل حتى تنبعث مهما انبعثا، وتسكن مهما سكنا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به، ولا اتهام لمن صدّقوه واعترفوا بأنّ الحق منه. فإن قلت: ما معنى ثم هاهنا وهي التراخي وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارناً للإيمان لأنه وصف فيه، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتفاء الريب؟ قلت: الجواب على طريقين؛
أحدهما: أنّ من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان أو بعض المضلين بعد ثلج الصدر فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه، أو نظر هو نظراً غير سديد يسقط به على الشك ثم يستمرّ على ذلك راكباً رأسه لا يطلب له مخرجاً، فوصف المؤمنين حقاً بالبعد عن هذه الموبقات. ونظيره قوله: {ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30].
والثاني: أنّ الإيقان وزوال الريب لما كان ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدّم الإيمان، تنبيهاً على مكانه؛ وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً...
{وجاهدوا} يجوز أن يكون المجاهد منوياً وهو العدوّ المحارب أو الشيطان أو الهوى. وأن يكون جاهد مبالغة في جهد. ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس: الغزو، وأن يتناول العبادات بأجمعها، وبالمجاهدة بالمال: نحو ما صنع عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة، وأن يتناول الزكوات وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر التي يتحامل فيها الرجل على ماله لوجه الله تعالى {أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون} الذين صدقوا في قولهم آمنا، ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد، أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وإيمان حق وجدّ وثبات...
إرشادا للأعراب الذين قالوا آمنا إلى حقيقة الإيمان فقال إن كنتم تريدون الإيمان فالمؤمنون من آمن بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، يعني أيقنوا بأن الإيمان إيقان، وثم للتراخي في الحكاية، كأنه يقول آمنوا، ثم أقول شيئا آخر لم يرتابوا، ويحتمل أن يقال هو للتراخي في الفعل تقديره آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما قال النبي صلى الله عليه وسلم من الحشر والنشر، وقوله تعالى: {وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} يحقق ذلك، أي أيقنوا أن بعد هذه الدار دارا فجاهدوا طالبين العقبى، وقوله {أولئك هم الصادقون} في إيمانهم، لا الأعراب الذين قالوا قولا ولم يخلصوا عملا.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} أي: إنما المؤمنون الكُمَّل {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} أي: لم يشكوا ولا تزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه، {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي: في قولهم إذا قالوا: "إنهم مؤمنون"، لا كبعض الأعراب الذين ليس معهم من الدين إلا الكلمة الظاهرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إنما المؤمنون} أي العريقون في الإيمان الذي هو حياة القلوب... {الذين آمنوا} أي صدقوا معترفين {بالله} معتقدين جميع ما له من صفات الكمال {ورسوله} شاهدين برسالته، وهذا هو المعرفة التي هي العلم، وغايتها الحكمة، وهذا الإثبات هنا يدل على أن- المنفي فيما قيل الكمال لا المطلق، وإلا لقال "إنما الذين آمنوا". ولما كان هذا عظيماً والثبات عليه أعظم، وهو عين الحكمة، أشار إلى عظيم مزية الثبات بقوله: {ثم} أي بعد امتطاء هذه الرتبة العظيمة {لم يرتابوا} أي ينازعوا- الفطرة الأولى في تعمد التسبب إلى الشك ولم يوقعوا الشك في وقت من الأوقات الكائنة بعد الإيمان، فلا يزال على تطاول الأزمنة وحصول الفتن وصفهم بعدم الريب غضاً جديداً...
{وجاهدوا} أي أوقعوا الجهاد بكل ما ينبغي أن تجهد النفس فيه تصديقاً لما ادعوه بألسنتهم من الإيمان {بأموالهم} وذلك هو العفة {وأنفسهم} أعم من النية وغيرها، وذلك هو الشجاعة، وقدم الأموال لقلتها في ذلك الزمان عند العرب {في سبيل الله} أي طريق الملك الأعظم بقتال الكفار وغيره من سائر العبادات المحتاجة إلى المال والنفس...
{أولئك} أي العالو الرتبة الذين حصل لهم استواء الأخلاق والعدل في الدين بجميع أمهات الأخلاق {هم} أي خاصة {الصادقون} قالاً وحالاً وفعالاً، وأما غيرهم فكاذب.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: من جمعوا بين الإيمان والجهاد في سبيله...
{أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي: الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة، فإن الصدق، دعوى كبيرة في كل شيء يدعى يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهان، وأعظم ذلك، دعوى الإيمان، الذي هو مدار السعادة، والفوز الأبدي، والفلاح السرمدي، فمن ادعاه، وقام بواجباته، ولوازمه، فهو الصادق المؤمن حقًا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فالإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله. التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب. التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب، ولا تهجس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور. والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله...
. (أولئك هم الصادقون).. الصادقون في عقيدتهم. الصادقون حين يقولون: إنهم مؤمنون...
(إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله -ثم لم يرتابوا -).. إنه ليس مجرد عبارة. إنما هو لمس لتجربة شعورية واقعية. وعلاج لحالة تقوم في النفس. حتى بعد إيمانها.. (ثم لم يرتابوا) وشبيه بها الاحتراس في قوله تعالى.. (إن الذين قالوا ربنا الله.. ثم استقاموا..) فعدم الارتياب. والاستقامة على قولة: ربنا الله. تشير إلى ما قد يعتور النفس المؤمنة- تحت تأثير التجارب القاسية، والابتلاءات الشديدة -من ارتياب ومن اضطراب. وإن النفس المؤمنة لتصطدم في الحياة بشدائد تزلزل، ونوازل تزعزع. والتي تثبت فلا تضطرب، وتثق فلا ترتاب، وتظل مستقيمة موصولة هي التي تستحق هذه الدرجة عند الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا تعليل لقوله: {لم تؤمنوا} إلى قوله: {في قلوبكم} وهو من جملة ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للأعراب، أي ليس المؤمنون إلا الذين آمنوا ولم يخالط إيمانهم ارتياب أو تشكك.
و (إنما) للحصر، و (إنّ) التي هي جُزء منها مفيدة أيضاً للتعليل وقائمة مقام فاء التفريع، أي إنما لم تكونوا مؤمنين لأن الإيمان ينافيه الارتياب.
والقصر إضافي، أي المؤمنون الذين هذه صفاتهم غير هؤلاء الأعراب.
فأفاد أن هؤلاء الأعراب انتفى عنهم الإيمان لأنهم انتفى عنهم مجموع هذه الصفات.
وإذ قد كان القصر إضافياً لم يكن الغرض منه إلاّ إثبات الوصف لغير المقصور لإخراج المتحدث عنهم عن أن يكونوا مؤمنين، وليس بمقتض أن حقيقة الإيمان لا تتقوم إلا بمجموع تلك الصفات لأن عد الجِهاد في سبيل الله مع صفتي الإيمان وانتفاء الريب فيه يمنع من ذَلك لأن الذي يقعُد عن الجهاد لا ينتفي عنه وصف الإيمان إذ لا يكفَّر المسلم بارتكاب الكبائر عند أهل الحق. وما عداه خطأ واضح، وإلا لانتقضت جامعة الإسلام بأسرها إلا فئة قليلة في أوقات غير طويلة.
والمقصود من إدماج ذكر الجهاد التنويه بفضل المؤمنين المجاهدين وتحريض الذين دخلوا في الإيمان على الاستعداد إلى الجهاد كما في قوله تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستُدْعَون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يُسلمون} الآية [الفتح: 16].
و (ثم) من قوله: {ثم لم يرتابوا} للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجمل. ففي (ثم) إشارة إلى أن انتفاء الارتياب في إيمانهم أهم رتبةً من الإيمان إذ به قوامُ الإيمان، وهذا إيماء إلى بيان قوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]، أي من أجل ما يخالجكم ارتياب في بعض ما آمنتم به مما اطلّع الله عليه.
وقوله: {أولئك هم الصادقون} قصر، وهو قصر إضافي أيضاً، أي هم الصادقون لا أنتم في قولكم {آمناً}.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{إنما المؤمنون}، أي: المؤمنون الكاملون إيمانا، {الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا}، أي ثبتوا بعد إيمانهم على وتيرة واحدة من التصديق القلبي الخالص، دون تردد ولا تزعزع ولا اضطراب...
{وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله}، هذه صفة أخرى مميزة لكاملي الإيمان، فهم يؤمنون بأن كل ما يملكونه من نفس ونفيس إنما هو عطية من الله وهبة منه...