التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } روايات منها ، ما رواه ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال : " كانت فارس ظاهرة على الروم . وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت : { الاما غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } قالوا : يا أبا بكر . إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فراس فى بضع سنين : قال : صدق . قالوا هل لك أن نقامرك ؟ - أى : نراهنك وكان ذلك قبل تحريم الرهان - فبايعوه على أربع فلائص - جمع قلوص ، وهى من الإِبل : اشابة - إلى سبع سنين . فمضت السبع ولميكن شئ . ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين ، فذكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : ما بضع سنين عندكم ؟ قالوا : دون العشر .

قال : اذهب فزايدهم ، وازدد سنتين فى الأجل . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك " .

وقال بعض العلماء : اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على ان ملك فارس كان قد غزا بلاد الشام مرتين : فى سنة 613 ، وفى سنة 614 ، أى : قبل الهجرة بسبع سنين ، فحدث أن بلغ الخبر مكة . ففرح المشركون ، وشتموا فى المسلمين . . فنزلت هذه الآيات .

فلم يمض من البضع - وهو ما بين الثلاث إلى التسع - سبع سنين ، إلا وقد انتصر الروم على الفرس ، وكان ذلك سنة 621م . أى : قبل الهجرة بسنة .

وأدنى بمعنى أقرب . والمراد بالأرض : أرض الروم .

أى : غلبت الروم فى أقرب أرضها من بلاد الفرس .

قال ابن كثير : وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم ، حين غلبت الروم ، بين أذرعات وبصرى ، - على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما - ، وهى طرف بلاد الشام ممايلى الحجاز .

وقال مجاهد : كان ذلك فى الجزيرة ، وهى أقرب بلاد الروم من فارس .

وقال الآلوسى : والمراد بالأرض . أرض الروم ، على أن " أل " نائبة مناب الضمير المضاف إليه ، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة ، لأن الكلام معهم .

أو المراد أرض مكة ونواحيها ، لأنها الأرض المعهودة عندهم ، والأقربية بالنظر إلى الروم .

وقوله - تعالى - : { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } بشارة من الله - تعالى - للمؤمنين ، بأن الله - تعالى - سيحقق لهم ما يرجونه من انتصار الروم على الفرس .

أى وهم - أى الروم - من بعد هزيمتهم من الفرس ، سينتصرون عليهم ، خلال بضع سنين .

والتعبير بقوله - تعالى - : { سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، لتأكيد هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمر الأمم ، وقد تحقق هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمرا لأمم ، وقد تحقق هذا الوعد على أكمل صورة وأتمها ، فقد انتصر الروم على الفرس نصرا عظيما ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - حيث أخبر عن أمور ستقع فى المستقبل ، وقد وقعت كما أخبر .

وقوله - سبحانه - : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } جملة معترضة لبيان قدرة الله - تعالى - التامة النافذة ، فى كل وقت وآن . أى : لله - تعالى - وحده الأمر النافذ من قبل انتصار الفرس على الروم ، ومن بعد انتصار الروم على الفرس : وكلا الفريقين كان نصره أو هزيمته بإرادة الله ومشيئته ، وليس أحد من الخلق أن يخرج عما قدره - سبحانه - وأراده .

{ وَيَوْمَئِذٍ } أى : ويوم أن يتغلب الروم على الفرس { يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله } حيث نصر أهل الكتاب وهم الروم ، على من لا كتاب لهم وهم الفرس ، الذين كانوا يعبدون النار فأبطل - سبحانه - بهذا النصر شماتة المشركين فى المسلمين ، وازنداد المؤمنون ثبتاتا على ثباتهم .

قال ابن كثير : وقد كانت نصرة الروم على فارس ، يوم وقعة بدر ، فى قول طائفة كبيرة من العلماء . . فلما انتصرت الروم على فارس ، فرح المؤمنون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب فى الجملة ، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس .

وقوله - سبحانه - : { يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم } مؤكد لما قبله . أى : ينصر - سبحانه - من يريد نصره ، ويهزم من يريد هزيمته ، وهو ، العزيز الذى لا يغلبه غالب ، الرحيم الذى وسعت رحمته كل شئ .

ثم زاد - سبحانه - هذا الأمر تأكيدا وتقوية فقال : { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين . وقد روى ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : كانت فارس ظاهرة على الروم . وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ و كان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم . فلما نزلت : الم . غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، في بضع سنين . قالوا : يا أبا بكر . إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين . قال : صدق . قالوا : هل لك أن نقامرك ? فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين . فمضت السبع ولم يكن شيء . ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين فذكر ذلك للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " ما بضع سنين عندكم ? " قالوا : دون العشر . قال : " اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل " . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس . ففرح المؤمنون بذلك .

وقد وردت في هذا الحادث روايات كثيرة اخترنا منها رواية الإمام ابن جرير . وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية .

وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان . ومع أن الدول قديما لم تكن شديدة الاتصال ، والأمم لم تكن وثيقة الاربتاط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر . مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم ؛ وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب ، وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان ؛ وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم ، ويؤثر في قضية الكفر والإيمان .

وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا ؛ ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . منذ حوالي أربعة عشر قرنا . ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية ؛ ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان ؛ وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان .

وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة ، وحقيقة القضية ؛ فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر ، فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة ، مهما تنوعت العلل والأسباب .

والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله ، كما تبدو في قولة أبي بكر - رضي الله عنه - في غير تلعثم ولا تردد ، والمشركون يعجبونه من قول صاحبه ؛ فما يزيد على أن يقول : صدق . ويراهنونه فيراهن وهو واثق . ثم يتحقق وعد الله ، في الأجل الذي حدده : ( في بضع سنين ) . . وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينا وثباتا في وجه العقبات والآلام والمحن ، حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله . وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل .

والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر ، من قول الله سبحانه : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) . . والمسارعة برد الأمر كله لله . في هذا الحادث وفي سواه . وتقرير هذه الحقيقة الكلية ، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف . فالنصر والهزيمة ، وظهور الدول ودثورها ، وضعفها وقوتها . شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال ، مرده كله إلى الله ، يصرفه كيف شاء ، وفق حكمته ووفق مراده . وما الأحداث والأحوال إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة ، التي ليس لأحد عليها من سلطان ؛ ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة ؛ ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله . و إذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدر مرسوم .

( ألم . غلبت الروم في أدنى الأرض . وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) . .

( لله الأمر من قبل ومن بعد ) . .

( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) . .

ولقد صدق وعد الله ، وفرح المؤمنون بنصر الله .

( ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم ) . .

فالأمر له من قبل ومن بعد . وهو ينصر من يشاء . لا مقيد لمشيئته سبحانه . والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب . فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب . والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة . وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف ؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات . والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات ، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة .

والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال . فهي ترد الأمر كله إلى الله . ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع . أما أن تتحقق تلك النتائج فعلا أو لا تتحقق فليس داخلا في التكليف ، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله . ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ودخل يصلي قائلا : توكلت على الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعقلها وتوكل " . فالتوكل في العقيدة الإسلامية مقيد بالأخذ بالأسباب ، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله .

( ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم ) . .

فهذا النصر محفوف بظلال القدرة القادرة التي تنشئه وتظهره في عالم الواقع ؛ وبظلال الرحمة التي تحقق به مصالح الناس ؛ وتجعل منه رحمة للمنصورين والمغلوبين سواء . ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )وصلاح الأرض رحمة للمنتصرين والمهزومين في نهاية المطاف .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

وقوله : فِي أدْنَى الأرْضِ قد ذكرت قول بعضهم فيما تقدّم قبل ، وأذكر قول من لم يذكر قوله .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله في أدنى الأرْضِ يقول : في طرف الشام .

ومعنى قوله أدنى : أقرب ، وهو أفعل من الدنوّ والقرب . وإنما معناه : في أدنى الأرض من فارس ، فترك ذكر فارس استغناء بدلالة ما ظهر من قوله فِي أدْنَى الأرْضِ عليه منه . وقوله : وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ يقول : والروم من بعد غلبة فارس إياهم سيغلبون فارس . وقوله : منْ بَعْدِ غَلَبهمْ مصدر من قول القائل : غلبته غلبة ، فحذفت الهاء من الغلبة . وقيل : من بعد غلبهم ، ولم يقل : من بعد غلبتهم للإضافة ، كما حذفت من قوله : وَإقامِ الصّلاةِ للإضافة . وإنما الكلام : وإقامة الصلاة .

وأما قوله : سَيَغْلِبُونَ فإن القرّاء أجمعين على فتح الياء فيها ، والواجب على قراءة من قرأ : «الم غَلَبَنِ الرّومُ » بفتح الغين ، أن يقرأ قوله : «سَيُغْلَبُونَ » بضم الياء ، فيكون معناه : وهم من بعد غلبتهم فارس سيغلبهم المسلمون ، حتى يصحّ معنى الكلام ، وإلاّ لم يكن للكلام كبير معنى إن فتحت الياء ، لأن الخبر عما قد كان يصير إلى الخبر عن أنه سيكون ، وذلك إفساد أحد الخبرين بالاَخر .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

{ غلبت الروم في أدنى الأرض } أرض العرب منهم لأنها الأرض المعهودة عندهم ، أو في أدنى أرضهم من العرب واللام بدل من الإضافة . { وهم من بعد غلبهم } من إضافة المصدر إلى المفعول ، وقرئ { غلبهم } وهو لغة كالجلب والجلب . { سيغلبون } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

وقرأ الجمهور «غُلبت » بضم الغين وقالوا معنى الآية أنه طرأ بمكة أن الملك كسرى هزم جيش ملك الروم قال مجاهد : في الجزيرة وهو موضع بين العراق والشام ، وقال عكرمة : وهي بين بلاد العرب والشام ، وقال مقاتل : بالأردن وفلسطين ، فلما طرأ ذلك سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم { سيغلبون في بضع سنين } وتكون الدولة لهم في الحرب ، وقرأ أبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن قرة وعبد الله بن عمر «غَلَبت » الروم بفتح الغين واللام ، وتأويل ذلك أن الذي طرأ يوم بدر إنما كان أن الروم غلبت فعز ذلك على كفار قريش وسر المسلمون فبشر الله تعالى عباده بأنهم { سيغلبون } أيضاً { في بضع سنين } ، ذكر هذا التأويل أبو حاتم ، والرواية الأولى والقراءة بضم الغين أصح ، وأجمع الناس على «سيَغلبون » أنه بفتح الياء{[1]} يريد به الروم ، وروي عن ابن عمرو أنه قرأ أيضاً «سيُغلبون » بضم الياء ، وفي هذه القراءة قلب للمعنى الذي تظاهرت الروايات به ، و { أدنى الأرض } معناه أقرب الأرض ، فإن كانت الوقعة في أذرعات فهي من { أدنى الأرض } بالقياس إلى مكة وهي التي ذكر امرؤ القيس في قوله : [ الطويل ]

تنورتها من أذرعات وأهلها . . . بيثرب أدنى دارها نظر عال{[2]}

وإن كانت الوقعة بالجزيرة فهي { أدنى } بالقياس إلى أرض كسرى ، وإن كانت بالأردن فهي { أدنى } إلى أرض الروم ، قال أبو حاتم : وقرىء «أداني الأرض »{[3]} ، وقرأ جمهور الناس «غلَبهم » بفتح اللام كما يقال أحلب حلباً لك شطره{[4]} ، وقرأ ابن عمر بسكونها وهما مصدران بمعنى واحد وأضيف إلى المفعول{[5]} ، وروي في قصص هذه الآية عن ابن عباس وغيره أن الكفار لما فرحوا بمكة بغلب الروم بشر الله نبيه والمؤمنين بأن الروم { سيغلبون في بضع سنين } أي من الثلاثة إلى التسعة على مشهور قول اللغويين . كأنه تبضيع العشرة أي تقطيعها وقال أبو عبيدة : من الثلاث إلى الخمس ، وقوله مردود ، فلما بشرهم بذلك خرج أبو بكر الصديق إلى المسجد فقال لهم : أسركم إن غلبت الروم فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى أنهم { سيغلبون في بضع سنين } فقال له أبي بن خلف وأمية أخوه وقيل أبو سفيان بن حرب تعال يا أبا فصيل يعرضون بكنيته بالبكر{[6]} فلنتناخب ، أي نتراهن ، في ذلك فراهنهم أبو بكر قال قتادة : وذلك قبل أن يحرم القمار وجعل الرهن خمس قلائص ، والأجل ثلاث سنين ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له «إن البضع إلى التسعة ولكن زدهم في الرهن واستزدهم في الأجل »

، ففعل أبو بكر فجعلوا القلائص مائة والأجل تسعة أعوام ، فغلبت الروم في أثناء الأجل ، فروي عن أبي سعيد الخدري أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر ، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية وأن الخبر بذلك وصل يوم بيعة الرضوان ، روي نحوه عن قتادة ، وفي كلا اليومين كان نصر من الله تعالى للمؤمنين ، وذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تغلب وكون المشركين من قريش على ضد ذلك إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين ، والفرس أهل الأوثان أو نحوه من عبادة النار ككفار قريش والعرب .

قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن يعلل ذلك بما تقتضيه الفطر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤنة ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه ، فتأمل هذا المعنى مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بملك يستأصله ويريحهم منه{[7]} . و { سنين } ، يجمع كجمع من يعقل عوضاً من النقص الذي في واحده لأن أصل سنة سنهة أو سنوة ، وكسرت السين منه دلالة على جمعه خارج عن قياسه ونمطه .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[3]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني.
[4]:- هو أبو هاشم المكي الليثي، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، يروي عن أبيه ابن عمر.
[5]:- من الآية رقم (7) من سورة آل عمران.
[6]:- رواه الترمذي وصححه، والإمام أحمد ولفظه: (الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)، وهذا الحديث يرد على القولين معا.
[7]:- رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، ونص الترمذي: (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها. وإنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته)، وقد يكون هذا الحديث سندا لما اعتاده الناس من قراءة الفاتحة، وقد أخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ فاتحة الكتاب حتى تختمها تقض إن شاء الله، نقله الجلال السيوطي. وللغزالي في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني المأمور بقراءتها في كل صلاة، وتكرارها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق أن ليس في التوراة ولا في الإنجيل والفرقان مثلها، قال الشيخ زروق: وفيه تنبيه بل تصريح أن يكثر منها لما فيها من الفوائد والذخائر. انتهى.

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وهم} يعني الروم {من بعد غلبهم سيغلبون} أهل فارس...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"فِي أدْنَى الأرْضِ"... عن ابن عباس، قوله "في أدنى الأرْضِ "يقول: في طرف الشام.

ومعنى قوله "أدنى": أقرب، وهو أفعل من الدنوّ والقرب. وإنما معناه: في أدنى الأرض من فارس، فترك ذكر فارس استغناء بدلالة ما ظهر من قوله "فِي أدْنَى الأرْضِ "عليه منه.

وقوله: "وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ" يقول: والروم من بعد غلبة فارس إياهم سيغلبون فارس.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{فِي أَدْنَى الأَرْضِ} يعني أدنى الأرض من أرض الشام إلى أرض فارس.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والأرض: أرض العرب، لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غلبوا في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام. أو أراد أرضهم، على إنابة اللام مناب المضاف إليه، أي: في أدنى أرضهم إلى عدوّهم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وقوله تعالى: {وهم من بعد غلبهم} أية فائدة في ذكره مع أن قوله: {سيغلبون} بعد قوله: {غلبت الروم} لا يكون إلا من بعد الغلبة؟ فنقول الفائدة فيه إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله، لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفا، فلو كان غلبتهم لشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعدما غلبوا، دل على أن ذلك بأمر الله، فذكر من بعد غلبهم ليتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بزحفهم، وإنما ذلك بأمر الله تعالى.

{في أدنى الأرض} لبيان شدة ضعفهم، أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك الرومية لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإذن الله...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{في أدنى الأرض} أي أقرب أرضهم إلى أرضكم أيها العرب، وهي في أطراف الشام، وفي تعيين مكان الغلب -على هذا الوجه- بشارة للعرب بأنهم يغلبونهم إذا وافقوهم، فإن موافقتهم لهم تكون في مثل ذلك المكان. وقد كان كذلك بما كشف عنه الزمان، فكأنه تعالى يقول لمن فرح من العرب بنصر أهل فارس على الروم لنكاية المسلمين: اتركوا هذا السرور الذي لا يصوب نحوه من له همة الرجال، وأجمعوا أمركم وأجمعوا شملكم، لتواقعوهم في مثل هذا الوضع فتنصروا عليهم، ثم لا يقاومونكم بعدها أبداً، فتغلبوا على بلادهم ومدنهم وحصونهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم...

ولما ابتدأ سبحانه بما أوجبه للروم من القهر بتبديلهم، معبراً عنهم بأداة التأنيث مناسبة لسفولهم، أتبعه ما صنعه معهم لتفريج المحسنين من عباده الذين ختم بهم الأمم ونسخ بملتهم الملل، وأدالهم على جميع الدول، فقال معبراً بما يقتضي الاستعلاء من ضمير الذكور العقلاء: {وهم} أي الروم، ودل على التبعيض وقرب الزمان بإثبات الجار فقال، معبراً بالجار إشارة إلى أن استعلاءهم إنما يكون في بعض زمان البعد ولا يدوم: {من بعد غلبهم} الذي تم عليهم من غلبة فارس إياهم، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول {سيغلبون} فارساً، فأكد وعده بالسين -وهو غني عن التأكيد- جرياً على مناهيج القوم لما وقع في ذلك من إنكارهم

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... هذا الغلَب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة 615 مسيحية. وذلك أن خسرو بن هرمز ملكَ الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين وهي من البلاد الواقعة تحت حكم هرقل قيْصر الروم، فنازل أنطاكية ثم دمشق وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحاداة بلاد العرب بين بُصرى وأذرعات. وذلك هو المراد في هذه الآية {في أدْنَى الأرْض} أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب.

فالتعريف في {الأرْض} للعهد، أي أرض الروم المتحدث عنهم، أو اللام عوض عن المضاف إليه، أي في أدنى أرضهم، أو أدنى أرض الله. وحذف متعلق {أدنى} لظهور أن تقديره: من أرضكم، أي أقرب بلاد الروم من أرض العرب، فإن بلاد الشام تابعة يومئذ للروم وهي أقرب مملكة للروم من بلاد العرب. وكانت هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم.

وقوله {وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} إخبار بوعد معطوف على الإخبار الذي قبله، وضمائر الجمع عائدة إلى الروم.

و {غَلَبِهم} مصدر مضاف إلى مفعوله. وحذف مفعول {سيغلبون} للعلم بأن تقديره: سيغلبون الذين غلبوهم، أي الفرس إذ لا يتوهم أن المراد سيغلبون قوماً آخرين لأن غلبهم على قوم آخرين وإن كان يرفع من شأنهم ويدفع عنهم معرة غلب الفرس إياهم، لكن القصة تبين المراد ولأن تمام المنة على المسلمين بأن يغلب الروم الفرسَ الذين ابتهج المشركون بغلبهم وشمتوا لأجله بالمسلمين كما تقدم.

وفائدة ذكر {من بعد غلبهم} التنبيه على عظم تلك الهزيمة عليهم، وأنها بحيث لا يُظن نصر لهم بعدَها، فابتهج بذلك المشركون؛ فالوعد بأنهم سيغلبون بعد ذلك الانهزام في أمد غير طويل تحدَ تحدَّى به القرآن المشركين، ودليل على أن الله قدر لهم الغلب على الفرس تقديراً خارقاً للعادة معجزة لنبيئه صلى الله عليه وسلم وكرامة للمسلمين.