التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِٱلۡحَقِّۗ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلۡمٗا لِّلۡعَٰلَمِينَ} (108)

وبعد أن أفاض - سبحانه - فى الحديث عن أحوال السعداء وأحوال الأشقياء وعن رذائل الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم ممن أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا

وبعد أن ساق - سبحانه - من التوجيهات الحكيمة ، والإرشادات النافعة ما يشفى الصدور ويهدى النفوس ، بعد كل ذلك ، خاطب - سبحانه - نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :

{ تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } .

والمراد بالآيات ما سبق ذكره فى هذه السورة وغيرها من آيات قرآنية تهدى إلى الرشد وتشهد بوحدانية الله - تعالى - وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه .

وكانت الإشارة بتلك الدالة على البعد للإشعار بعلو شأن هذه الآيات وسمو منزلتها وعظم قدرها .

ومعنى { نَتْلُوهَا } نقرؤها عليك يا محمد شيئاً فشيئاً قراءة واضحة جلية لتبلغها للناس على مكث وتدبر وروية .

وأسند - سبحانه - التلاوة إليه مع أن التالى فى الحقيقة جبريل - عليه السلام - للتنيه على شرف هذه الآيات المتلوة ، ولأن تلاوة جبريل إنما هي بأمر منه - سبحانه - .

وقال - سبحانه - { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا } فأظهر لفظ الجلالة ولم يقل تلك آياتنا نتلوها ، ليكون التصريح باسمه - سبحانه - مربيا فى النفوس المهابة والإجلال له ، إذ هو المستحق وحده لوصف الألوهية فلا إله سواه ولا معبود بحق غيره ، وهو ذو الجلال والإكرام ، وهو المنشىء الموجد لهذا الكون وما فيه ومن فيه .

فالتصريح باسمه - تعالى - يزيد البيان جلالا ويبعث فى النفوس الخشيية والمراقبة والبعد عما يوجب العقاب والإقبال على ما يوصل إلى الثواب .

وقوله { بالحق } في موضع الحال المؤكدة من الفاعل أو المفعول .

أى نتلوها عليك متلبسة بالحق أو متلبسين بالصدق أو العدل فى كل ما دلت عليه هذه الايات ونطقت به ، مما لا تختلف فيه العقول السليمة ، والمدارك القويمة

وقوله - تعالى - { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } نفى للظلم بأبلغ وجه فإنه - سبحانه - لم ينف فقط الظلم عن ذاته بل نفى عن ذاته إرادة الظلم إذ هو أمر يليق به - سبحانه - ولا يتصور وقوعه منه .

وكيف يريد الظلم من منح هذا العالم كله الوجود ، وخلق هذا الكون برحمته وقدرته وعدله ؟ والظلم - كما يقول الراغب - وضع الشىء فى غير موضعه المختص به إما بزيادة أو بنقصان وإما بعدول عن وقته ومكانه ، ومن هذا يقال : ظلمت السقاء إذا تناولته فى غير وقته ، وظلمت الأرض إذا حفرتها ولم تكن موضعاً للحفر .

وقال بعض الحكماء : الظلم ثلاثة أنواع :

الأول : ظلم بين الإنسان وبين الله - تعالى - وأعظمه الكفر والشرك والنفاق وإياه قصد - سبحانه - بقوله : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } والثانى : ظلم بينه وبين الناس وإياه قصد بقوله : { إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس } والثالث : ظلم بينه وبين نفسه وإياه قصد بقوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } والظلم الذى نفى إرادته - سبحانه - عن ذاته عام لا يخص نوعا دون نوع ، إذ من المعروف عند علماء اللغة أن النكرة فى سياق النفى تعم ، وهنا جاء لفظ الظلم منكراً فى سياق النفى وهو ما .

قال الجمل واللام فى قوله { لِّلْعَالَمِينَ } زائدة لا تعلق لها بشىء زيدت فى مفعول المصدر وهو " ظلم " والفاعل محذوف . وهو فى التقدير ضمير البارىء - سبحانه - والمعنى ما الله يريد أن يظلم العالمين ، فزيدت اللام تقوية للعامل كقوله { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِٱلۡحَقِّۗ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلۡمٗا لِّلۡعَٰلَمِينَ} (108)

93

ويعقب على هذا البيان لمصائر الفريقين تعقيبا قرآنيا يتمشى مع خطوط السورة العريضة ، يتضمن إثبات صدق الوحي والرسالة . وجدية الجزاء والحساب يوم القيامة . والعدل المطلق في حكم الله في الدنيا والآخرة . وملكية الله المفردة لما في السماوات وما في الأرض . ورجعة الأمر إليه في كل حال :

( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ، وما الله يريد ظلما للعالمين ) . ( ولله ما في السماوات وما في الأرض . وإلى الله ترجع الأمور ) . .

تلك الصور . تلك الحقائق . تلك المصائر . . تلك آيات الله وبيناته لعباده : نتلوها عليك بالحق . فهي حق فيما تقرره من مبادىء وقيم ؛ وهي حق فيما تعرضه من مصائر وجزاءات . وهي تتنزل بالحق ممن يملك تنزيلها ؛ وممن له الحق في تقرير القيم ، وتقرير المصائر ، وتوقيع الجزاءات . وما يريد بها الله أن يوقع بالعباد ظلما . فهو الحكم العدل . وهو المالك لأمر السماوات والأرض .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِٱلۡحَقِّۗ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلۡمٗا لِّلۡعَٰلَمِينَ} (108)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ }

يعني بقوله جل ثناؤه : { تِلكَ آيَاتِ اللّهُ } : هذه آيات الله وقد بينا كيف وضعت العرب «تلك » و«ذلك » مكان «هذا » و«هذه » في غير هذا الموضع فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته . وقوله : { آياتُ اللّهِ } يعني : مواعظ الله ، وعبره وحججه . { نَتْلُوها عَلَيْكَ } نقرؤها عليك ونقصها . { بالحَقّ } يعني : بالصدق واليقين وإنما يعني بقوله : { تِلْكَ آياتُ اللّهِ } هذه الاَيات التي ذكر فيها أمور المؤمنين من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمور يهود بني إسرائيل وأهل الكتاب ، وما هو فاعل بأهل الوفاء بعهده وبالمبدلين دينه والناقضين عهده بعد الإقرار به . ثم أخبر عزّ وجلّ نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يتلو ذلك عليه بالحقّ وأعلمه أن من عاقبه من خلقه بما أخبر أنه معاقبه من تسويد وجهه وتخليده في أليم عذابه وعظيم عقابه ومن جازاه منهم بما جازاه من تبييض وجهه وتكريمه وتشريف منزلته لديه بتخليده في دائم نعيمه فبغير ظلم منه لفريق منهم بل لحقّ استوجبوه وأعمال لهم سلفت ، جازاهم عليها ، فقال تعالى ذكره : { وَما اللّهُ يُرِيدُ ظُلْما للعالَمِينَ } يعني بذلك : وليس الله يا محمد بتسويد وجوه هؤلاء ، وإذاقتهم العذاب العظيم¹ وتبييض وجوه هؤلاء ، وتنعيمه إياهم في جنته ، طالبا وضع شيء مما فعل من ذلك في غير موضعه الذي هو موضعه ، إعلاما بذلك عباده ، أنه لن يصلح في حكمته بخلقه ، غير ما وعد أهل طاعته والإيمان به ، وغير ما أوعد أهل معصيته والكفر به ، وإنذارا منه هؤلاء وتبشيرا منه هؤلاء .