التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

ثم أشار - سبحانه - إلى عظمة هذا القرآن الذي أوحاه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى . . . } .

والمراد بالقرآن هنا : معناه اللغوى ، أى الكلام المقروء .

وجواب لو محذوف لدلالة المقام عليه .

والمعنى : ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية ، { سُيِّرَتْ بِهِ الجبال } أى : تحركت من أماكنها ، { أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض } أى شققت وصارت قطعا ، { أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى } بأن يعودوا إلى الحياة بعد قراءته عليهم .

ولو أن كتابا مقروءا كان من وظيفته أن يفعل ذلك لكان هذا القرآن ، لكونه الغاية القصوى في الهداية والتذكير ، والنهاية العظمى في الترغيب والترهيب .

وعلى هذا المعنى يكون الغرض من الآية الكريمة بيان عظم شأن القرآن الكريم ، وإبطال رأى الكافرين الذين طلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - آية كونية سواه .

ويصح أن يكون المعنى : ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية نزل عليك يا محمد فسيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ، لما آمن هؤلاء المعاندون .

قال - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . . } وعلى هذا المعنى يكون المقصود من الآية الكريمة ، بيان غلوهم في العناد والطغيان ، وتماديهم في الكفر والضلال ، وأن سبب عدم إيمانهم ليس مرده إلى عدم ظهور الدلائل الدالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - وإنما سببه الحسد والعناد والمكابرة .

ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق التي طلبوها منه - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره الإِمام ابن كثير من أن المشركين قالوا للنبى - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد ، لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .

وقوله - سبحانه - { بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً } إضراب عن مطالبهم المتعنتة إلى بيان أن الأمور كلها بيد الله ، وأن قدرته - سبحانه - لا يعجزها شئ .

أى : إن الله - تعالى - لا يعجزه أن يأتى بالمقترحات التي اقترحوها ، ولكن إرادته - سبحانه - لم تتعلق بما اقترحوه ، لعلمه - سبحانه - بعتوهم ونفورهم عن الحق مهما أوتوا من آيات .

وقوله - سبحانه - : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً } تيئيس للمؤمنين من استجابة أولئك الجاحدين للحق ، إلا أن شاء الله لهم الهداية ، والاستفهام للإِنكار ، وأصل اليأسك قطع الطمع في الشئ والقنوط من حصوله .

وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان :

أحدهما يرى أصحابه أن الفعل ييأس على معناه الحقيقى وهو قطع الطمع في الشئ ، وعليه يكون المعنى : أفلم ييأس على معناه الحقيقى وهو قطع في الشئ ، وعليه يكون المعنى : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان كفار قريش ، ويعلموا أن الله - تعالى - لو يشاء هداية الناس جميعا لاهتدوا ، ولكنه لم يشأ ذلك ، ليتميزا الخبيث من الطيب .

وعلى هذا الاتجاه سار الإِمام ابن كثير فقد قال - رحمه الله - : وقوله - تعالى { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } أى : من إيمان جميع الخلق ويعلموا أن يتبينوا { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً } فإنه ليس هناك حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في النفوس والعقول من هذا القرآن ، الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله .

وثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من نبى إلا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " .

ويؤيد هذا الاتجاه ما ذكره السيوطى في تفسيره من أن بعض الصحابة قالوا للرسول - صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ، اطلب لهم - أى للمشركين ، ما اقترحوه عسى أن يؤمنوا .

أما الاتجاه فيرى أصحابه أن الفعل ييأس بمعنى يعلم ، وعليه يكون المعنى : أفلم يعلم المؤمنون أنه - سبحانه - لو شاء هداية الناس جميعا لآمنوا .

وهذا الاتجاه صدر به الآلوسى تفسيره فقال ما ملخصه :

ومعنى قوله - سبحانه - : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } أفلم يعلموا ، وهى كما قال القاسم بن معن لغة هوازن ، وقال الكلبى هي لغة حى من النخع ، وأنشدوا على ذلك قول سيحم بن وئيل الرباحى :

أقول لهم بالشعب إذ يأسروننى . . . ألم ييأسوا أنى ابن فارس زهدم

وقول رباح بن عدى :

ألم ييأس الأقوام أنى أنا ابنه . . . وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

والظاهر أن استعمال اليأس في ذلك حقيقه .

وقيل مجاز لأنه متضمن للعلم فإن الآيس عن الشئ عالم بأنه لا يكون . .

والفاء للعطف على مقدر . أى : أغفلوا عن كون الأمر جميعه لله - تعالى - فلم يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا . .

ثم حذر - سبحانه - الكافرين من التمادى في كفرهم ، وبشر المؤمنين بحسن العاقبة فقال - تعالى - : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } .

والقارعة : من القرع ، وهو ضرب الئ بشئ آخر بقوة وجمعها قوارع .

والمراد بها : الرزية والمصيبة والكارثة .

أى : ولا يزال الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم تصيبهم بسبب ما صنعوه من الكفر والضلال " قارعة " أى مصيبة تفجؤهم وتزعجهم أو تحل تلك المصيبة في مكان قريب من دارهم ، فيتطاير شرها إليهم ، حتى يأتى وعد الله بهلاكهم وهزيمتهم ونصر المؤمنين عليهم ، إن الله - تعالى - لا يخلف الميعاد ، أى : موعوده لرسله ولعباده المؤمنين .

وأبهم - سبحانه - ما يصيب الكافرين من قوارع ، لتهويله وبيان شدته .

والتعبير بقوله : { ولا يزال } يشير إلى أن ما أصابهم من قوارع كان موجودا قبل نزول هذه الآية ، واستمرت إصابته لهم بعد نزولها ، لأن الفعل { لا يزال } يدل علىا لإخبار باستمرار شئ واقع .

ولعل هذه الآية الكريمة كان نزولها في خلال سنى الجدب التي حلت بقريش والتى أشار إليها القرآن بقوله : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ . يَغْشَى الناس هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ . . . } وعبر - سبحانه - عما أصابهم من بلاء بالقارعة ، للمبالغة في شدته وقوته ، حتى إنه ليقرع قلوبهم فجأة فيبتهتهم ويزعجهم ، ولذلك سميت القيامة بالقارعة ، لأنها تقرع القلوب بأهوالها .

وقال - سبحانه - : { أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } لبيان أنهم بين أمرين أحلاهما مُرّ لأن القارعة إما أن تصيبهم بما يكرهونه ويتألمون له ، وإما أن تنزل قريبا منهم فتفزعهم ، وتقلق أمنهم ، وهم مستمرون على ذلك حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا .

ولقد قضى الله - تعالى - أمره ، بهزيمتهم في بدر وفى غيرهم ، وأتم نصره على المؤمنين بفتح مكة . وبدخول الناس في دين الله أفواجا .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

19

وإنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن . هذا القرآن العجيب ، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض ، أو يكلم به الموتى ، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات ، ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات . ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء . فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون ، وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين :

( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى . بل لله الأمر جميعا . أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا . ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله . إن الله لا يخلف الميعاد ) . .

ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى . لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة ، بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته . فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض ، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ ? !

وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها . طبيعته في دعوته وفي تعبيره . طبيعته في موضوعه وفي أدائه . طبيعته في حقيقته وفي تأثيره . . إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة ، يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام ، واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به . والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال ، وهو تاريخ الأمم والأجيال ؛ وقطعوا ما هو أصلب من الأرض ، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد . وأحيوا ما هو أخمد من الموتى . وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام . والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة ، أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها ، وتحول الأرض عن جمودها ، وتحول الموتى عن الموات !

( بل لله الأمر جميعا ) .

وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال .

فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذي يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم ؛ وأن يدعوا الأمر لله ، فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى ، فلهدى الناس جميعا على نحو خلقة الملائكة لو كان يريد . أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه . . ولكن لم يرد هذا ولا ذاك . لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم سبحانه أنها تقتضي خلفته على هذا النحو الذي كان .

فليدعوهم إذن لأمر الله . وإذا كان الله قد قدر ألا يهلكهم هلاك استئصال في جيل كبعض الأقوام قبلهم ، فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب ، وتهلك من كتب عليه منهم الهلاك .

( أو تحل قريبا من دارهم ) . .

فتروعهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها ؛ وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها .

( حتى يأتي وعد الله ) . .

الذي أعطاهم إياه ، وأمهلهم إلى انتهاء أجله :

( إن الله لا يخلف الميعاد ) . .

فهو آت لا ريب فيه ، فملاقون فيه ما وعدوه .