التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (147)

ثم أتبع - سبحانه - محاسنهم الفعلية ، ببيان محاسنهم القولية فقال - تعالى - { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } .

أى أن هؤلاء الأنقياء الأوفياء الصابرين ما كان لهم من قول فى مواطن القتال وفى عموم الأحوال إلا الضراعة إلى الله - بثلاث أمور :

أولها : حكاه القرآن عنهم فى قوله : { ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا } .

أى : إنهم يدعون الله - تعالى - بأن يغفر لهم ذنوبهم ما كان صغيرا منها وما كان كبيرا : وأن يغفر لهم ( إسرافهم فى أمرهم ) أى ما تجاوزوه من الحدود التى حدها لهم وأمرهم بعدم تجاوزها .

وثانيها : حكاه القرآن عنهم فى قوله { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } أى أجعلنا يا ربنا ممن يثبت لحرب أعدائك وقتالهم ولا تجعلنا ممن يوليهم الأدبار .

وثالثها : حكاه القرآن عنهم فى قوله { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } أى اجعل النصر لنا يا ربنا على أعدائك وأعدائنا الذين جحدوا وحدانيتك ، وكذبوا نبيك وضلوا ضلالا بعيدا .

وتأمل معى - أخى القارىء- هذه الدعوات الكريمة تراها قد جمعت من صدق اليقين ، وحسن الترتيب .

فهم قد التمسوا - أولا - من خالقهم مغفرة ذنوبهم والتجاوز عما وقعوا فيه من أخطاء وهذا يدل على سلامة قلوبهم وتواضعهم واستصغار أعمالهم مهما عظمت أمام فضل الله ونعمه .

ثم التمسوا منه - ثانيا - تثبيت أقدامهم عند لقاء الأعداء حتى لا يفروا من أمامهم .

ثم التمسوا منه - ثالثا - النصر على الكافرين وهو غاية القتال ، لأن الانتصار عليهم يؤدى إلى منع وقوع الفتنة فى الأرض ، وإلى إعلاء كلمة الحق .

قال صاحب الكشاف : قوله { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } الخ هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين هضما لها واستقصارا . والدعاء بالاستغفار منها مقدما على طلب تثبيت الأقدام فى مواطن الحرب والنصرة على العدو ، ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة وخضوع . وهو أقرب إلى الاستجابة " .

وكان هنا ناقصة ، وقوله { قَوْلَهُمْ } بالنصب خبرها واسمها المصدر المتحصل من " أن " وما بعدها فى قوله { إِلاَّ أَن قَالُواْ } والاستثناء مفرغ .

أى : ما كان قولهم فى ذلك المقام وفى غيره من المواطن إلا قولهم هذا الدعاء أى هو دأبهم وديدنهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (147)

121

وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء . فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم . صورة الأدب في حق الله ، وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس ، ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه . ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى الله . . لا لتطلب النصر أول ما تطلب - وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس - ولكن لتطلب العفو والمغفرة ، ولتعترف بالذنب والخطيئة ، قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء :

( وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، وإسرافنا في أمرنا ، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين ) . .

إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء . بل لم يطلبوا ثوابا ولا جزاء . . لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة . لقد كانوا أكثر أدبا مع الله ، وهم يتوجهون إليه ، بينما هم يقاتلون في سبيله . فلم يطلبوا منه - سبحانه - إلا غفران الذنوب ، وتثبيت الأقدام . . والنصر على الكفار . فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار . . إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم .

/خ179