بهذا الأسلوب المقنع المهذب دعا نوح قومه إلى وحدانية الله . فكيف كان ردهم عليه ؟ لقد ردوا عليه ردا سقيما حكاه القرآن في قوله : { قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .
الملأ : الأشراف والسادة من القوم . سموا بذلك لأنهم يملأون العيون مهابة . وقيل : هم الرجال ليس فيهم نساء . والملأ : اسم جمع لا واحد له من لفظه : كرهط .
والجملة الكريمة مستأنفة ، كأنه قيل فماذا قالوا له ؟ فقيل : قال الملأ . . . إلخ والرؤية هنا قلبية ومفعولاها الضمير والظرف ، وقيل : بصرية فيكون الظرف في موضع الحال . أى : قال الأشراف من قوم نوح له عندما دعاهم إلى وحدانية الله : إنا لنراك بأمرك لنا بعبادة الله وحده وترك آلهتنا في انحراف بين عن طريق الحق والرشاد .
يقال : ضل الطريق يضل وضل عنه ضلالا وضلالة ، أى زل عنه فلم يهتدوا إليه ، وجعلوا الضلال ظرفا له { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } مبالغة في وصفهم له وزادوا في المبالغة بأن أكدوا ذلك بالجملة المصدرة بإن ولام التأكيد .
ورحم الله ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية . وهكذا حال الفجار ، إنما يرون الأبرار في ضلالة ، كقوله - تعالى - : { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ } { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } إلى غير ذلك من الآيات .
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ الْمَلاُ مِن قَوْمِهِ إِنّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن جواب مشركي قوم نوح لنوح ، وهم الملأ والملأ : الجماعة من الرجال لا امرأة فيهم أنهم قالوا له حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له : إنّا لَنَرَاكَ يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعنون : في أمر زائل عن الحقّ ، مبين زواله عن قصد الحدّ لمن تأمّله .
و { الملأ } الجماعة الشريفة ، قال الطبري : لا امرأة فيهم ، وحكاه النقاش عن ثعلب في الملأ والرهط والنفر والقوم ، وقيل هم مأخوذون من أنهم يملؤون النفس والعين ، ويحتمل أن يكون من أنهم إذا تمالؤوا على أمر تم ، وقال سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري عند قفول رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر إنما قتلنا عجائز صلعاً ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «أولئك الملأ من قريش لو حضرت أفعالهم لاحتقرت فعلك » والملأ صفة غالبة وجمعه أملاء وليس من باب رهط وإن كانا اسمين للجمع لأن رهط لا واحد له من لفظه ، و «ملأ » يوجد من لفظه مالىء قال أحمد بن يحيى : المالىء الرجل الجليل الذي يملأ العين بجهرته فيجيء كعازب وخادم ورائح فإن أسماء جموعها عرب وخدم وروح ، وإن كان اللفظة من تمالأ القوم على كذا فهي مفارقة باب رهط ومنه قول علي رضي الله عنه : ما قتلت عثمان ولا مالأت في دمه ، وقال ابن عباس «الملؤ » بواو وكذلك هي في مصاحف الشام ، وقولهم لنراك يحتمل أن يجعل من رؤية البصر ، ويحتمل من رؤية القلب وهو الأظهر و { في ضلال } أي في إتلاف وجهالة بما نسلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.