التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٖ} (7)

ثم زجر - سبحانه - هؤلاء الفاسقين عن أمره زجرا شديدا ، وتوعدهم بالعذاب الشديد ، فقال - تعالى - : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ } .

وقوله : { كلا } حرف ردع وزجر ، وما بعده كلام مستأنف ، وقد تكرر فى الآيات التى معنا ثلاث مرات ، والمراد به هنا : ردعهم وزجرهم عما كانوا فيه من الشرك ، والتطفيف فى الكيل والميزان .

والفجار : جمع فاجر ، وهو مأخوذ من الفجور ، وهو شق الشئ شقا واسعا ، وسمى الفجار بذلك مبالغة فى هتكهم لحرمات الله ، وشقهم لستر الشريعة ، بدون خوف أو وجل . يقال : فجر فلان فجورا فهو فاجر ، وهم فجار وفجرة ، إذا تجاوزوا كل حد أمر الله - تعالى - بالوقوف عنده . والمراد بالكتاب المكتوب . أى : صحيفة الأعمال .

والسجِّين : اختلفوا فى معناه على أقوال منها : أنه علم أو وصف لواد فى جهنم ، صيغ بزنة فِعِّيل - بكسر الفاء مع تشديد العين المكسورة - ، مأخوذ من السَّجن بمعنى الحبس . يقال : سجن الحاكم فلانا يسجنه - بضم الجيم - سجنا ، إذا حبسه

قال ابن كثير : قوله : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ } أى : إن مصيرهم ومأواهم لفى سجين - فعيل من السَّجن ، وهو الضيق - ، كما يقال : فلان فسيق وشريب وخمير وسكير ونحو ذلك ، ولهذا عظم أمره فقال : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } ؟

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٖ} (7)

القول في تأويل قوله تعالى : { كَلاّ إِنّ كِتَابَ الْفُجّارِ لَفِي سِجّينٍ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كِتَابٌ مّرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ * الّذِينَ يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدّينِ } .

يقول تعالى ذكره : كلا ، أي ليس الأمر كما يظنّ هؤلاء الكفار ، أنهم غير مبعوثين ولا معذّبين ، إن كتابهم الذي كتب فيه أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا لَفِي سِجّينٍ وهي الأرض السابعة السفلى ، وهو «فعّيلٌ » من السّجن ، كما قيل : رجل سِكّير من السكر ، وفِسيق من الفسق .

وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : مثل الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن مغيث بن سميّ : إنّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجّينٍ قال : في الأرض السابعة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن مغيث بن سميّ ، قال : إنّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجّينِ قال : الأرض السفلى ، قال : إبليس مُوثَق بالحديد والسلاسل في الأرض السفلى .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني جرير بن حازم ، عن سليمان الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن هلال بن يساف ، قال : كنا جلوسا إلى كعب أنا وربيع بن خيثم وخالد بن عُرْعُرة ، ورهط من أصحابنا ، فأقبل ابن عباس ، فجلس إلى جنب كعب ، فقال : يا كعب ، أخبرني عن سجّين ، فقال كعب : أما سجّين : فإنها الأرض السابعة السفلى ، وفيها أرواح الكفار تحت حدّ إبليس .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجّينٍ : ذُكر أن عبد الله بن عمرو كان يقول : هي الأرض السفلى ، فيها أرواح الكفار ، وأعمالهم أعمال السّوء .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فِي سِجّينٍ قال : في أسفل الأرض السابعة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : إنّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجّينٍ يقول : أعمالهم في كتاب في الأرض السفلى .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : فِي سِجّينٍ قال : عملهم في الأرض السابعة لا يصعد .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد ، قال : حدثنا مطرّف بن مازن : قاضي اليمن ، عن معمر ، عن قتادة قال : سِجّينٍ : الأرض السابعة .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَفِي سِجّينٍ يقول : في الأرض السفلى .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة ، في قوله : إنّ كِتابَ الفُجّار لَفِي سِجّينٍ قال : الأرض السابعة السفلى .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كَلاّ إنّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجّينٍ قال : يقال سجين : الأرض السافلة ، وسجين : بالسماء الدنيا .

وقال آخرون : بل ذلك حدّ إبليس . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القُمّي ، عن حفص بن حميد ، عن شمر ، قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار ، فقال له ابن عباس : حدّثني عن قول الله : إنّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجّينٍ . . . الاَية ، قال كعب : إن روح الفاجر يُصْعد بها إلى السماء ، فتأبى السماء أن تقبلها ، ويُهبط بها إلى الأرض ، فتأبى الأرض أن تقبلها ، فتهبط فتدخل تحت سبع أرضين ، حتى ينتهي بها إلى سجين ، وهو حدّ إبليس ، فيخرج لها من سجين من تحت حدّ إبليس رَقّ ، فيرقم ويختم ، يوضع تحت حدّ إبليس بمعرفتها الهلاك إلى يوم القيامة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : إنّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجّينٍ قال : تحت حدّ إبليس .

وقال آخرون : هو جبّ في جهنم مفتوح ، ورووا في ذلك خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا به إسحاق بن وهب الواسطيّ ، قال : حدثنا مسعود بن موسى بن مسكان الواسطيّ ، قال : حدثنا نضر بن خُزيمة الواسطي ، عن شعيب بن صفوان ، عن محمد بن كعب القُرَظي ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قوله : قال : «الفَلَقُ جُبّ فِي جَهَنّمَ مُغَطّى ، وأمّا سِجّينٌ فَمَفْتُوحٌ » .

وقال بعض أهل العربية : ذكروا أن سجين : الصخرة التي تحت الأرض ، قال : ويُرَى أن سجين صفة من صفاتها ، لأنه لو كان لها اسما لم يجرّ ، قال : وإن قلت أجريته لأني ذهبت بالصخرة إلى أنها الحجر الذي فيه الكتاب كان وجها .

وإنما اخترت القول الذي اخترت في معنى قوله : سِجّينٍ لما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : حدثنا المنهال بن عمرو ، عن زاذان أبي عمرو ، عن البراء ، قال : سِجّينٍ : الأرض السفلى .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن زاذان ، عن البراء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «وذكر نفس الفاجر ، وأنّهُ يُصْعَدُ بها إلى السّماءِ ، قال : فَيَصْعَدُونَ بِها فَلا يَمُرّونَ بِها عَلى مَلإِ مِنَ المَلائِكَةِ إلاّ قالُوا : ما هَذَا الرّوحُ الخَبِيثُ ؟ قال : فَيَقُولُونَ فُلانٌ بأقْبَحِ أسمَائِهِ التي كانَ يُسَمّى بِها فِي الدنْيا حتى يَنْتَهُوا بِها إلى السّماءِ الدّنيْا ، فَيسْتَفْتِحُونَ لَهُ ، فَلا يُفْتَحُ لَهُ » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تُفَتّحُ لَهُمْ أبْوَابُ السّماءِ ولاَ يَدْخُلُونَ الجّنَةَ حتى تَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ فَيَقُولُ اللّهُ : اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي أسْفَلِ الأرْضِ فِي سِجّينٍ فِي الأرْضِ السّفْلَى » .

حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن سليم ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : كَلاّ إنّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجّينٍ قال : سجين : صخرة في الأرض السابعة ، فيجعل كتاب الفجار تحتها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٖ} (7)

كلا ردع عن التطفيف والغفلة عن البعث والحساب إن كتاب الفجار ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم لفي سجين كتاب جامع لأعمال الفجرة من الثقلين كما قال .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٖ} (7)

{ كلاّ } .

إبطال وردع لما تضمنته جملة : { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون } [ المطففين : 4 ] من التعجيب من فعلهم التطفيف ، والمعنى : كلا بل هم مبعوثون لذلك اليوم العظيم ولتلقي قضاء رب العالمين فهي جواب عما تقدم .

{ إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجِّينٍ } .

استئناف ابتدائي بمناسبة ذكر يوم القيامة . وهو تعريض بالتهديد للمطففين بأن يكون عملهم موجِباً كتْبه في كتاب الفجار .

و { الفجار } غلب على المشركين ومن عسى أن يكون متلبساً بالتطفيف بعد سماع النهي عنه من المسلمين الذي ربما كان بعضهم يفعله في الجاهلية .

والتعريف في { الفجار } للجنس مراد به الاستغراق ، أي جميع المشركين فيعم المطففين وغير المطففين ، فوصف الفجار هنا نظير ما في قوله : { أولئك هم الكفرة الفجرة } [ عبس : 42 ] .

وشمول عموم الفجار لجميع المشركين المطففين منهم وغير المطففين يُعنى به أن المطففين منهم المقصود الأول من هذا العموم ، لأن ذكر هذا الوصف والوعيد عليه عقب كلمة الردع عن أعمال المطففين قرينة على أن الوعيد موجّه إليهم .

و« الكتابُ » المكتوبُ ، أي الصحيفة وهو هنا يحتمل شيئاً تحصى فيه الأعمال ، ويحتمل أن يكون كناية عن إحصاء أعمالهم وتوقيفهم عليها ، وكذلك يَجري على الوجهين قولُه : { كتاب مرقوم } وتقدمت نظائره غير مرة .

و { سجين } حروف مادته من حروف العربية ، وصيغته من الصيغ العربية ، فهو لفظ عربي ، ومن زعم أنه معرّب فقد أغرب . روي عن الأصمعي : أن العرب استعملوا سجين عوضاً عن سلْتِين ، وسلتين كلمة غير عربية .

ونون { سجين } أصلية وليست مبدلة عن اللام ، وقد اختلف في معناه على أقوال أشهرها وأولاها أنه عَلَم لواد في جهنم ، صيغ بزنة فِعِّيل من مادة السجن للمبالغة مثل : الملك الضِّليل ، ورجل سِكّير ، وطعام حِرّيف ( شديد الحرافة وهي لذع اللسان ) سمي ذلك المكان سجيناً لأنه أشدّ الحَبْس لمن فيه فلا يفارقه وهذا الاسم من مصطلحات القرآن لا يعرف في كلام العرب من قبل ولكن مادته وصيغته موضوعتان في العربية وضعاً نوعياً . وقد سمع العرب هذا الاسم ولم يطعنوا في عربيته .

ومحمل قوله : { لفي سجين } إن كان على ظاهر الظرفية كان المعنى أن كتب أعمال الفجار مودعة في مكان اسمه { سجين } أو وصفه { سجين } وذلك يؤذن بتحقيره ، أي تحقير ما احتوى عليه من أعمالهم المكتوبة فيه ، وعلى هذا حمله كثير من المتقدمين ، وروى الطبري بسنده حديثاً مرفوعاً يؤيد ذلك لكنه حديث منكر لاشتمال سنده على مجاهيل .

وإن حُملت الظرفيةُ في قوله : { لفي سجين } على غير ظاهرها ، فجَعْل كتاب الفجّار مظروفاً في { سجين } مجاز عن جعل الأعمال المحصاة فيه في سجّين ، وذلك كناية رمزية عن كون الفجار في سجّين .