الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٖ} (7)

قوله : { لَفِي سِجِّينٍ } : اختلفوا في نون " سِجِّين " . فقيل : هي أصليةٌ . اشتقاقهُ من السِّجْنِ وهو الحَبْسُ ، وهو بناءُ مبالغةٍ ، فسِجِّين من السَّجْنِّ كسِكِّير من السُّكْر . وقيل : بل هي بدلٌ من اللامِ ، والأصلُ : سِجِّيْل ، مشتقاً من السِّجِلِّ وهو الكتابُ . واختلفوا فيه أيضاً : هل هو اسمُ موضعٍ ، أو اسمُ كتابٍ مخصوصٍ ؟ وهل هو صفةٌ أو عَلَمٌ منقولٌ مِنْ وصفٍ كحاتِم . وهو مصروفٌ إذ ليس فيه إلاَّ سببٌ واحدٌ وهو العَلَمِيَّةُ ، وإذا كان اسمَ مكانٍ ، فقوله " كتابٌ مَرْقُوْمٌ " : إمَّا بدلٌ منه ، أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وهو ضميرٌ يعودُ عليه ، وعلى التقديرَيْن فهو مُشْكِلٌ ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو المكانَ فقيل : التقدير : هو مَحَلُّ كتابٍ ، ثم حُذِفَ المضافُ . وقيل : التقديرُ : وما أدراك ما كتابُ سِجِّين ؟ فالحذفُ ، إمَّا مِنْ الأولِ ، وإمَّا مِنْ الثاني : وأمَّا إذا قُلْنا : إنه اسمٌ ل " كتاب " فلا إشكال .

وقال ابن عطية : " مَنْ قال : إنَّ سِجِّيناً موضعٌ فكتابٌ مرفوعٌ ، على أنه خبرُ " إنّ " والظرفُ الذي هو " لفي سِجِّين " مُلْغَى ، ومَنْ جعله عبارةً عن الخَسارة ، فكتابٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، التقدير : هو كتابٌ ، ويكونُ هذا الكلامُ مفسِّراً لِسِجِّين ما هو ؟ " انتهى ، وهذا لا يَصِحُّ البتة ؛ إذ دخولُ اللامِ يُعَيِّنُ كونَه خبراً فلا يكونُ مُلْغى . لا يقال : اللامُ تَدْخُلُ على معمولِ الخبرِ فهذا منه فيكونُ مُلْغى ؛ لأنه لو فُرِضَ الخبرُ وهو " كتابٌ " عاملاً أو صفتُه عاملةٌ وهو " مرقوم " لامتنعَ ذلك . أمَّا مَنْعُ عملِ " كتابٌ " فلأنَّه موصوف ، والمصدرُ الموصوفُ لا يعمل . وأمَّا امتناعُ عملِ " مرقومٌ " فلأنَّه صفةٌ ، ومعمولُ الصفةِ لا يتقدَّمُ على موصوفِها . وأيضاً فاللامُ إنما تدخُلُ على معمولِ الخبر بشرطِه ، وهذا ليس معمولاً للخبرِ ، فتعيَّنَ أَنْ يكونَ الجارُّ هو الخبرَ ، وليس بملغى . وأمَّا قولُه ثانياً " ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً لسِجِّين ما هو " فمُشْكِلٌ ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو الخسَارَ الذي جُعِلَ الضميرُ عائداً عليه مُخْبِراً عنه ب " كتابٌ " .

وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سِجِّين وفَسَّر سِجِّيناً ب " كتاب مرقوم " فكأنه قيل : إنَّ كتابَهم في كتابٍ مرقوم فما معناه ؟ قلت : " سِجِّين " كتابٌ جامعٌ ، هو ديوانُ الشرِّ دَوَّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفَرَةِ والفَسَقَةِ من الجنِّ والإِنسِ ، وهو كتابٌ مَسْطورٌ بَيِّنُ الكِتابةِ ، أو مَعْلَمٌ يَعْلَمُ مَنْ رآهُ أنه لا خَيْرَ فيه فالمعنى : أنَّ ما كُتِبَ مِن أعمالِ الفُجَّارِ مُثْبَتٌ في ذلك الديوانِ ، ويُسَمَّى سِجِّيلاً فِعِّيلاً من السَّجْلِ وهو الحَبْسُ والتضييق ؛ لأنه سببُ الحِبْسِ والتضييق في جهنم " انتهى .