والضمير فى قوله { يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } يجوز أن يعود إلى كل أفاك أثيم ، وهم الكهان وأشباههم ، والجملة صفة لهم ، أو مستأنفة .
والمراد بإلقائهم السمع : شدة الإنصات ، وقوة الإصغاء للتلقى .
والمعنى : تتنزل الشياطين على كل أفاك أثيم . وهؤلاء الأفاكون الآثمون ، منصتون إنصاتا شديدا إلى الشياطين ليسمعوا منهم ، وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيما يقولونه للناس ، وفيما يخبرون به عن الشياطين .
روى البخارى عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : " سأل الناس النبى صلى الله عليه وسلم عن الكهان ، فقال : إنهم ليسوا بشىء ، قالوا : يا رسول الله ، فإنهم يحدثون بالشىء يكون حقا ؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم " تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى فيقرقرها - أى : فيرددها فى أذن وليه كقرقرة الدجاجة - فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة " " .
ويجوز أن يعود الضمير على الشياطين . وتكون الجملة حالية أو مستأنفة ، ومعنى إلقائهم السمع : إنصاتهم إلى الملأ الأعلى ليسترقوا شيئا من السماء .
فيكون المعنى : تتنزل الشياطين على كل أفاك أثيم ، حالة كون الشياطين ينصتون إلى الملأ الأعلى . ليسترقوا شيئا من السماء ، وأكثر هؤلاء الشياطين كاذبون فيما ينقلونه إلى الأفاكين والآثمين من الكهان .
ويصح أن يكون السمع بمعنى المسموع . أى : يلقى كل من الشياطين والكهنة ما يسمعونه إلى غيرهم .
قال الجمل : قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } الأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم ، على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون فيما يحكون عن الجنى . أو المعنى : وأكثر أقوالهم كاذبة لا باعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون أقلهم صادقا على الإطلاق . . . فالكثرة فى المسموع لا فى ذوات القائلين .
وقال بعضهم : المراد بالأكثر الكل . . .
والمقصود من هذه الآيات الكريمة إبطال ما زعمه المشركون من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تلقى هذه القرآن عن الشياطين أو عن غيرهم ، وإثبات أن هذا القرآن ما نزل إلا من عند الله - تعالى - بواسطة الروح الأمين .
وقوله : يُلْقُونَ السّمْعَ يقول تعالى ذكره : يُلقي الشياطين السمع ، وهو ما يسمعون مما استرقوا سمعه من حين حدث من السماء ، إلى كُلّ أفاكٍ أثِيمٍ من أوليائهم من بني آدم . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يُلْقُونَ السّمْعَ قال : الشياطين ما سمعته ألقته على كلّ أفّاك كذّاب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد يُلْقُونَ السّمْعَ الشياطين ما سمعته ألقته عَلى كُلّ أفّاكٍ قال : يلقون السمع ، قال : القول .
وقوله : وأكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ يقول : وأكثر من تنزّل عليه الشياطين كاذبون فيما يقولون ويخبرون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله وأكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ عن عروة ، عن عائشة قالت : الشياطين تسترق السمع ، فتجيء بكلمة حقّ فيقذفها في أذن وليه قال : ويزيد فيها أكثر من مئة كذبة .
وثانيهما قوله : { يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } أي الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون منهم ظنونا وأمارات لنقصان علمهم ، فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها كما جاء في الحديث " الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبه ولا كذلك محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها وقد فسر الأكثر بالكل لقوله تعالى : { كل أفاك أثيم } . والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني . وقيل الضمائر للشياطين أي يلقون السمع إلى الملأ الأعلى قبل أن يرجموا فيختطفون منهم بعض المغيبات ويوحون به إلى أوليائهم أو يلقون مسموعهم منهم إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم إذ يسمعونهم لا على نحو ما تكلمت به الملائكة لشرارتهم ، أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يلقون السمع} يقول: تلقي الشياطين بآذانهم إلى السمع في السماء لكلام الملائكة، وذلك أن الله عز وجل إذا أراد أمرا في أهل الأرض أعلم به أهل السماوات من الملائكة، فتكلموا به، فتسمع الشياطين لكلام الملائكة، وترميهم بالشهب فيخطفون الخطفة، ثم قال عز وجل: {وأكثرهم كاذبون} يعني: الشياطين حين يخبرون الكهنة أنه يكون في الأرض كذا وكذا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"يُلْقُونَ السّمْعَ" يقول تعالى ذكره: يُلقي الشياطين السمع، وهو ما يسمعون مما استرقوا سمعه من حين حدث من السماء، إلى كُلّ أفاكٍ أثِيمٍ من أوليائهم من بني آدم...
وقوله: "وأكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ "يقول: وأكثر من تنزّل عليه الشياطين كاذبون فيما يقولون ويخبرون... عن الزهري، في قوله "وأكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ" عن عروة، عن عائشة قالت: الشياطين تسترق السمع، فتجيء بكلمة حقّ فيقذفها في أذن وليه قال: ويزيد فيها أكثر من مئة كذبة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يُلْقُونَ السمع} هم الشياطين، كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يسمعون إلى الملإ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما أطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من أولئك {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} فيما يوحون به إليهم؛ لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا...فإن قلت: كيف قيل: {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك؟ قلت: الأفاكون هم الذين يكثرون الإفك، ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني؛ وأكثرهم مفتر عليه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{يُلْقُونَ السَّمْعَ} أي: يسترقون السمع من السماء، فيسمعون الكلمة من علم الغيب، فيزيدون معها مائة كذبة، ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس فيتحدثون بها، فيصدقهم الناس في كل ما قالوه، بسبب صدقهم في تلك الكلمة التي سمعت من السماء، كما صح بذلك الحديث، كما رواه البخاري، من حديث الزهري: أخبرني يحيى بن عُروَةَ بن الزبير، أنه سمع عُرْوَةَ بن الزبير يقول: قالت عائشة، رضي الله عنها: سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال:"إنهم ليسوا بشيء". قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فَيُقَرقرِها في أذن وليه كقَرْقَرة الدجاجة، فيخلطون معها أكثر من مائه كذبة".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وهؤلاء الأثمة {يلقون السمع} إلى الشياطين، ويصغون إليهم غاية الإصغاء، لما بينهما من التعاشق بجامع إلقاء الكذب من غير اكتراث ولا تحاش، أو يلقي الشياطين ما يسمعونه مما يسترقون استماعه من الملائكة إلى أوليائهم، فهم بما سمعوا منهم يحدثون، وبما زينت لهم نفوسهم يخلطون {وأكثرهم} أي الفريقين {كاذبون} فيما ينقلونه عما يسمعونه من الإخبار بما حصل فيما وصل إليهم من التخليط، وما زادوه من الافتراء والتخبيط انهماكاً في شهوة علم المغيبات، الموقع في الإفك والضلالات..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{يُلقون السمع} صفة ل {كلِّ أفاك أثيم}، أي يظهرون أنهم يُلقون أسماعهم عند مشاهدة كواكب لتتنزل عليهم شياطينهم بالخبر، وذلك من إفكهم وإثمهم.
وإلقاء السمع: هو شدة الإصغاء حتى كأنه إلقاءٌ للسمع من موضعه، شبه توجيه حاسة السمع إلى المسموع الخفي بإلقاء الحجر من اليد إلى الأرض أو في الهواء قال تعالى: {أو ألقَى السمع وهو شهيد} [ق: 37]، أي أبلغ في الإصغاء لِيَعِيَ ما يُقال له.
وهذا كما أطلق عليه إصغاء، أي إمالة السمع إلى المسموع.
وقوله: {وأكثرهم كاذبون} أي أكثر هؤلاء الأفاكين كاذبون فيما يزعمون أنهم تلقوه من الشياطين وهم لم يتلقوا منها شيئاً، أي وبعضهم يتلقى شيئاً قليلاً من الشياطين فيكذب عليه أضعافه.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.