ثم أتبع - سبحانه - محاسنهم الفعلية ، ببيان محاسنهم القولية فقال - تعالى - { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } .
أى أن هؤلاء الأنقياء الأوفياء الصابرين ما كان لهم من قول فى مواطن القتال وفى عموم الأحوال إلا الضراعة إلى الله - بثلاث أمور :
أولها : حكاه القرآن عنهم فى قوله : { ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا } .
أى : إنهم يدعون الله - تعالى - بأن يغفر لهم ذنوبهم ما كان صغيرا منها وما كان كبيرا : وأن يغفر لهم ( إسرافهم فى أمرهم ) أى ما تجاوزوه من الحدود التى حدها لهم وأمرهم بعدم تجاوزها .
وثانيها : حكاه القرآن عنهم فى قوله { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } أى أجعلنا يا ربنا ممن يثبت لحرب أعدائك وقتالهم ولا تجعلنا ممن يوليهم الأدبار .
وثالثها : حكاه القرآن عنهم فى قوله { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } أى اجعل النصر لنا يا ربنا على أعدائك وأعدائنا الذين جحدوا وحدانيتك ، وكذبوا نبيك وضلوا ضلالا بعيدا .
وتأمل معى - أخى القارىء- هذه الدعوات الكريمة تراها قد جمعت من صدق اليقين ، وحسن الترتيب .
فهم قد التمسوا - أولا - من خالقهم مغفرة ذنوبهم والتجاوز عما وقعوا فيه من أخطاء وهذا يدل على سلامة قلوبهم وتواضعهم واستصغار أعمالهم مهما عظمت أمام فضل الله ونعمه .
ثم التمسوا منه - ثانيا - تثبيت أقدامهم عند لقاء الأعداء حتى لا يفروا من أمامهم .
ثم التمسوا منه - ثالثا - النصر على الكافرين وهو غاية القتال ، لأن الانتصار عليهم يؤدى إلى منع وقوع الفتنة فى الأرض ، وإلى إعلاء كلمة الحق .
قال صاحب الكشاف : قوله { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } الخ هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين هضما لها واستقصارا . والدعاء بالاستغفار منها مقدما على طلب تثبيت الأقدام فى مواطن الحرب والنصرة على العدو ، ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة وخضوع . وهو أقرب إلى الاستجابة " .
وكان هنا ناقصة ، وقوله { قَوْلَهُمْ } بالنصب خبرها واسمها المصدر المتحصل من " أن " وما بعدها فى قوله { إِلاَّ أَن قَالُواْ } والاستثناء مفرغ .
أى : ما كان قولهم فى ذلك المقام وفى غيره من المواطن إلا قولهم هذا الدعاء أى هو دأبهم وديدنهم .
{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ ربّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيَ أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
يعني تعالى ذكره بقوله : { وَما كانَ قَوْلَهُمْ } : وما كان قول الربيين . والهاء والميم من ذكر أسماء الربيين . { إلاّ أنْ قالُوا } يعني ما كان لهم قول سوى هذا القول إذ قتل نبيهم . وقوله : { رَبّنا اغْفِرْ لنا ذُنُوبَنا } يقول : لم يعتصموا إذ قتل نبيهم إلا بالصبر على ما أصابهم ، ومجاهدة عدوّهم ، وبمسألة ربهم المغفرة والنصر على عدوّهم . ومعنى الكلام : { وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا } . وأما الإسراف : فإنه الإفراط في الشيء ، يقال منه : أسرف فلان في هذا الأمر إذا تجاوز مقداره فأفرط ، ومعناه ههنا : اغفر لنا ذنوبنا الصغار منها وما أسرفنا فيه منها فتخطينا إلى العظام . وكان معنى الكلام : اغفر لنا ذنوبنا ، الصغائر منها والكبائر . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قول الله : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } قال : خطايانا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أيو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } : خطايانا وظلمنا أنفسنا .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد الله بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } يعني : الخطايا الكبار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : الكبائر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } قال : خطايانا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } يقول : خطايانا .
وأما قوله : { وَثَبّتْ أقْدَامَنا } فإنه يقول : اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوّك وقتالهم ، ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفرّ منهم ، ولا يثبت قدمه في مكان واحد لحربهم . { وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } يقول : وانصرنا على الذين جحدوا وحدانيتك ونبوّة نبيك . وإنما هذا تأنيب من الله عزّ وجلّ عباده الذين فرّوا عن العدوّ يوم أحد وتركوا قتالهم ، وتأديب لهم ، يقول الله عزّ وجلّ : هلا فعلتم إذ قيل لكم : قتل نبيكم ، كما فعل هؤلاء الربيون ، الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء ، إذ قتلت أنبياؤهم ، فصبرتم لعدوكم صبرهم ، ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم ، فتحاولوا الارتداد على أعقابكم ، كما لم يضعف هؤلاء الربيون ولم يستكينوا لعدوّهم ، وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا ، فينصركم الله عليهم كما نصروا ، فإن الله يحبّ من صبر لأمره وعلى جهاد عدوّه ، فيعطيه النصر والظفر على عدوّه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإسْرَافَنا في أمْرِنا وَثَبّتْ أقْدَامَنا وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } : أي فقولوا كما قالوا ، واعلموا أنما ذلك بذنوب منكم ، واستغفروا كما استغفروا ، وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم ، ولا ترتدّوا على أعقابكم راجعين ، واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم ، واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين . فكل هذا من قولهم قد كان وقد قتل نبيهم ، فلم يفعلوا كما فعلتم .
والقراءة التي هي القراءة في قوله : { وَما كانَ قَوْلَهُمْ } النصب لإجماع قراء الأمصار على ذلك نقلاً مستفيضا وراثة عن الحجة . وإنما اختير النصب في القول ، لأن «إلا أن » لا تكون إلا معرفة ، فكانت أولى بأن تكون هي الاسم دون الأسماء التي قد تكون معرفة أحيانا ونكرة أحيانا ، ولذلك اختير النصب في كل اسم ولي «كان » إذا كان بعده «أن » الخفيفة ، كقوله : { فَما كانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاّ أنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أوْ حَرّقُوهُ } وقوله : { ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا } . فأما إذا كان الذي يلي كان اسما معرفة ، والذي بعده مثله ، فسواء الرفع والنصب في الذي ولي «كان » ، فإن جعلت الذي ولي «كان » هو الاسم رفعته ونصبت الذي بعده ، وإن جعلت الذي ولي «كان » هو الخبر نصبته ورفعت الذي بعده ، وذلك كقوله جلّ ثناؤه : { ثُمّ كانَ عاقِبَةَ الّذِينَ أساءُوا السّوأى } إن جعلت «العاقبة » الاسم رفعتها ، وجعلت «السوأى » هي الخبر منصوبة ، وإن جعلت «العاقبة » الخبر نصبت ، فقلت : وكان عاقبة الذين أساءوا السوأى ، وجعلت السوأى هي الاسم ، فكانت مرفوعة ، وكما قال الشاعر :
لقدْ عَلِمَ الأقوَامُ ما كانَ دَاءَها *** بَثهْلانَ إلا الخِزْيُ مِمّنْ يَقُودُها
رُوى أيضا : «ما كان داؤها بثهلان إلا الخزيَ » ، نصبا ورفعا ، على ما قد بينت ، ولو فعل مثل ذلك مع «أن » كان جائزا ، غير أن أفصح الكلام ما وصفت عند العرب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.