{ قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد( 52 )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد( 53 )ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط( 54 ) } .
قل لهم يا محمد أرأيتم إن كان القرآن من عند الله- وهو كذلك- ثم جحدتم بصدقه مع تعاضد موجبات الإيمان به فأخبروني من أضل منكم في خلافكم له خلافا غاية البعد عن الحق ؟ ! [ إن في قوله تعالى : { قل أرأيتم إن كان من عند الله } إشعار بأن كونه من عنده سبحانه ينافي الكفر به ، وأنهم مسلّمون ذلك ، لكن يطعنون في كونه من عنده عز وجل . . ]{[4182]} .
سنريهم دلائل صدق آياتنا في جنبات الأرض أو آفاق السماء وفي أنفسهم حتى يظهر لهم أن القرآن هو الحق الذي لا يأتيه الباطل ، أوليس يكفي المكذبين به الجاحدين تنزيله أن ربك ورب العالمين موحيه ، وهو على كل شيء مطّلع ، وبأحواله عليم ؟ ! .
ألا إنهم في شك عظيم من البعث والحشر والحساب والثواب والعقاب الذي وعد الله ؛ ألا إنه يعلم ما تنقص الأرض منهم ، وهو قادر على كل ما أراد ، محيط بما ظهر وما بطن ، وما يبصرون وما لا يبصرون . [ المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته . . وهو المتصرف فيها كلها بحكمته ]{[4183]} .
[ { سنريهم آياتنا في الآفاق } وهي الفتوح الواقعة على أيدي الخلفاء الراشدين والتي ستقع على أيدي أنصار دينه إلى يوم القيامة { وفي أنفسهم } وهي فتح مكة وسائر الفتوح التي وجدت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم { حتى يتبين لهم أنه } أي محمدا أو القرآن أو الدين { الحق } ووجه التبين أن هذا إخبار عن الغيب فإذا وقع مطابقا دل على صدق المخبر بل إعجازه ؛ وواحد { الآفاق } أفق ، وهو الناحية من نواحي الأرض والسماء ؛ وعند المحققين : الآيات الآفاقية هي الخارجة عن حقيقة الإنسان وبدنه كالأفلاك والكواكب ، والظلم والأنوار ؛ . . ولا ريب أن العجائب المودعة في هذه الأشياء مما لا نهاية لها . . والآيات النفسية هي التي أودعها في تركيب الإنسان وفي ربط روحه العلوي ببدنه . . ]{[4184]} .
السور الخمس المباركات دعت إلى توحيد الله تعالى وتقديسه ، وإلى اليقين بآياته ورسالاته ، والتصديق بالرجوع إلى ربنا-جل وعز-وملاقاته ، وتوفية كل محسن أو مسيء جزاء ما قدم في حياته ؛ وبينت جحود أكثر بني الإنسان ، وبصّرت بسبيل الدعوة إلى الإيمان ، وهدت إلى صراط العدل والفضل والإحسان .
في تقديس المولى سبحانه تتابع في هذه السور المحكمات ثناء على ربنا الكبير المتعال المتفرد بالجلال بأنه { العزيز العليم }{[1]} { العزيز الغفار }{[2]} { الواحد القهار }{[3]} ؛ فتبارك عالم الغيب والشهادة . مكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار ، فاطر السماوات والأرض الولي الحميد ، { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }{[4]} .
كم فيها من برهان على أن الله أحد صمد .
{ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون }{[5]} ؛ { لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور . أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير }{[6]} { لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه . . }{[7]} { خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون }{[8]} { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون . قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون }{[9]} ؛ { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا . . }{[10]} ، فادعوا الله مخلصين له الدين ، وأنيبوا إلى رفيع الدرجات العلي الحكيم .
وعهد الله إلى العباد أن يستيقنوا بالفرقان المنزل من لدنه سبحانه على خاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام ، فقد جعل موحيه-عز شأنه- نورا يهدي إلى السعادة وإلى دار السلام : { . . وإنه لكتاب عزيز . لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد }{[11]} . { . . تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء . . }{[12]} ؛ ويظفر بهدايته وبركته من تفهمه وتعلمه واستقام منهاجه : { . . فبشر عباد . الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب }{[13]} { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب }{[14]} .
والتدبر : يعني : النظر في عاقبة الآيات وما تؤول إليه ، ويعني : إمعان الفكرة فيها ، والتحدث بما هدت إليه ؛ ومما قال أبو حنيفة : الدبرة : البقعة من الأرض تزرع ؛ والدبر : المال الكثير الذي لا يحصى كثرة ؛ فكأن عظم خيرات القرآن يدركها من تعقل آياته ، وأكثر من النظر في عواقبها وما تؤول إليه ، وحدّث بذلك ما استطاع .
كما أن من عهد الله في هذا الكتاب المجيد أن يتذكره العقلاء ، وأن يحفظوه ويدرسوه ويقرءوه ؛ قال الفراء : الذكر ما ذكرته بلسانك وأظهرته ، والذكر بالقلب والدراسة للحفظ .
وإلا كان الطبع على الفؤاد ، كما قال الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ، حفظوا حروفه وضيعوا حدوده . ومن حاد عن آيات ربنا التكوينية والتنزيلية ، ومال عن القصد فيها ، ومارى وجادل ، وشك وأزرى ، فقد باء بغضب شديد ، ووقع في ضلال بعيد : { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر جبار } من سورة غافر الآية 35 ؛ غرهم بالله الغرور فاستكبروا عن آياته : { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ماهم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير } من سورة غافر . الآية56 ؛ ومهما أسروا قولهم الآثم أو جهروا به فإن مكرهم عند ربهم : { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا . . } من سورة ( فصلت )من الآية40 ؛ و[ ألحد ] تعني : مال وجار ، وعدل عن الحق ، وأدخل فيه ما ليس منه ، وأزرى به .
والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، حتى إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل{[15]} .
وجاءنا في هذه السور من نبأ المرسلين ما يثبت الفؤاد ويهدي إلى الرشاد ، فسلام على داود النبي الأوّاب ، وعلى سليمان الذي أوتي ملكا لم ينله أحد من بعده ، فسأل الله أن يعينه على شكر نعمة العزيز الوهاب ، وأيوب الصابر نعم العبد إنه أواب ، وإبراهيم وإسحق ويعقوب و{ . . . إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار }{[16]} ، وموسى الذي أرسل بالبرهان والسلطان إلى فرعون وقارون وهامان ، فقالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم ، فمن الله على موسى وهارون ، وآتاهما الكتاب المستبين ، وأغرق القوم المجرمين ؛ ولا تتحول سنة الله في الآخرين ، ولن تتبدل إلى يوم الدين { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد }{[17]} ، فاستكملوا الإيمان بدينكم يؤيدكم الله على عدوه وعدوكم ، وينصركم في أولاكم وفي آخرتكم .
وعشرات من الآيات تترى في يوم التلاق{ يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار . اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب }{[18]} ، { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب }{[19]} ، { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة واهم سوء الدار }{[20]} ، تحذر أهواله ونكاله ، وخزيه ووباله ، إذ تجمع الزبانية أوائل المجرمين على أواخرهم ، وتتكلم بأوزارهم عظامهم وأعينهم وأيديهم وأرجلهم : { حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم و جلودهم بما كانوا يعملون } ، حين يوقفون على شفير جهنم تتحدث أجزاؤهم بما قدموه من قول وعمل لا تكتم منه شيئا ، فيلومون جلودهم وحواسهم وأوصالهم ، إذ أقرت بما يحتم عذابهم{ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون }{[21]} وترد عليهم الجلود بالحق ، وتلومهم على غفلتهم عن سر الخلق .
وهناك لن يحتاج كل فاجر نفسه وكفى ، بل كلما دخلت أمة لعنت أختها ، وإن للطاغين لشر مآب ، { وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار . قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد }{[22]}{ ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون }{[23]} .
فاستجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ، { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد }{[24]} { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب . متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب . وعندهم قاصرات الطرف أتراب }{[25]} ؛ فاستيقنوا بالبعث والحساب ، وتزوّدوا ليوم المآب ، ولا تشغلنكم عنه زخارف العاجلة فإنها سراب ، وابتغوا عند الله الحياة الطيبة وعظيم الثواب ، فقد وعد بذلك في محكم الكتاب : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب }{[26]} .
وبصّرت هذه السور بنفس الإنسان :
فالظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفة فلعلة لا يظلم
وصدق الله العظيم : { . . وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم . . }ّ{[27]} ؛ وأكثر البشر كنود ، ولنعمة ربه جحود { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل . . }{[28]} { فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة . . }{[29]} { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسّه الشر فذو دعاء عريض }{[30]} { . . وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور }{[31]} ؛ لكن المفلح من تزكى وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى وشكر أنعم الله ، وإذا أصابته مصيبة صبر وقال : إنا لله ، { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون }{[32]} ؛ فلا تفتن بعلم ولا مال ولا جاه ، وقل : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم تبطرني السعة فأنساه-{ رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه . . }{[33]} .
والكتاب الحكيم بيّن في واحدة من هذه السور دعوة مؤمن حكيم يكتم إيمانه ، أربع عشرة آية تتابعت تهدي للتي هي أقوم ، تبشر من آمن واتقى بالثواب الأكرم ، وتنذر المشركين بطش الجبار وحر جهنم ؛ وتبليغ رسالات الله يتصدى له منه لا يخشى سواه ؛ والمؤمن يُلْزِمُه الله تعالى بفضله كلمة التقوى ، ويهديه إلى الطيب اللين من القول ليذكر من يخشى ، وبالدعوة المستبصرة يتزكى من سبقت له الحسنى ؛ فلندع إلى ربنا بالبينات والهدى ، ولنترفق بمن ندعوهم ، لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا .
واستحفظنا ميثاق الحق في مواطن كثيرة من هذه السور ، فالكتاب العزيز نزل{[34]} بالحق ، وربنا استخلفنا لنقيم الحق{[35]} ، وخلق الله السماوات والأرض بالحق{[36]} ، وربنا يفصل بين عباده بالحق{[37]} ؛ وأثنى مولانا على من أخذ بحقه ممن عدا عليه{[38]} .
ومع تقديس العدل ، فقد حبب إلينا أن لا نغلق باب العفو والصفح نبلغ منازل أهل الفضل{[39]} .
والله يهدينا إلى صراطه المستقيم
وسلام على المرسلين . والحمد لله رب العالمين .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون . وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .