الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا} (5)

{ فإن مع العسر يسرا } أي مع الشدة التي أنت فيها من مقاساة بلاء المشركين يسرا بإظهاري إياك عليهم حتى تغلبهم وينقادوا لك طوعا أو كرها .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا} (5)

قوله تعالى : { فإن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا }

أي إن مع الضيقة والشدة يسرا ، أي سعة وغنى . ثم كرر فقال : " إن مع العسر يسرا " ، فقال قوم : هذا التكرير تأكيد للكلام ، كما يقال : ارم ارم ، اعجل اعجل ، قال اللّه تعالى : " كلا سوف{[16171]} تعلمون . ثم كلا سوف تعلمون " [ التكاثر : 3 ] . ونظيره في تكرار الجواب : بلى بلى ، لا لا . وذلك للإطناب والمبالغة . قاله الفراء . ومنه قول الشاعر :

هممتُ بنفسيَ بعضَ الهموم *** فأولَى لنفسي أولَى لها{[16172]}

وقال قوم : إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه ، فهو هو . وإذا نكروه ثم كرروه فهو غيره . وهما اثنان ، ليكون أقوى للأمل ، وأبعث على الصبر . قاله ثعلب . وقال ابن عباس : يقول اللّه تعالى خلقت عسرا واحدا ، وخلقت يسرين ، ولن يغلب عسر يسرين . وجاء في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذه السورة : أنه قال : [ لن يغلب عسر يسرين ] . وقال ابن مسعود{[16173]} : والذي نفسي بيده ، لو كان العسر في حجر ، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، ولن يغلب عسر يسرين . وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم ، وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر رضي اللّه عنهما : أما بعد ، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة ، يجعل اللّه بعده فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن اللّه تعالى يقول في كتابه : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون{[16174]} " [ آل عمران : 200 ] . وقال قوم منهم الجرجاني : هذا قول مدخول ؛ لأنه يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل : إن مع الفارس سيفا ، إن مع الفارس سيفا ، أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنان . والصحيح أن يقال : إن اللّه بعث نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم مُقِلاًّ مُخِفًّا ، فعيره المشركون بفقره ، حتى قالوا له : نجمع لك مالا ، فاغتم وظن أنهم كذبوه لفقره ، فعزاه اللّه ، وعدد نعمه عليه ، ووعده الغنى بقوله : " فإن مع العسر يسرا " أي لا يحزنك ما عيروك به من الفقر ، فإن مع ذلك العسر يسرا عاجلا ، أي في الدنيا . فأنجز له ما وعده ، فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز واليمن ، ووسع ذات يده ، حتى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل ، ويهب الهبات السنية ، ويعد لأهله قوت سنة . فهذا الفضل كله من أمر الدنيا ، وإن كان خاصا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقد يدخل فيه بعض أمته إن شاء اللّه تعالى . ثم ابتدأ فضلا آخرا من الآخرة وفيه تأسية وتعزية له صلى اللّه عليه وسلم ، فقال مبتدئا : " إن مع العسر يسرا " فهو شيء آخر . والدليل على ابتدائه ، تعريه من فاء أو واو أو غيرها من حروف النسق التي تدل على العطف . فهذا وعد عام لجميع المؤمنين ، لا يخرج أحد منه ، أي إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرا في الآخرة لا محالة . وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة . والذي في الخبر : [ لن يغلب عسر يسرين ] يعني العسر الواحد لن يغلبهما ، وإنما يغلب أحدهما إن غلب ، وهو يسر الدنيا ، فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة ، ولن يغلبه شيء . أو يقال : " إن مع العسر " وهو إخراج أهل مكة النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة " يسرا " ، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل ، مع عز وشرف .


[16171]:آية 3 سورة ألهاكم.
[16172]:البيت للخنساء. ويروى: * هممت بنفسي كل الهموم *
[16173]:أي في روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[16174]:آية سورة آل عمران.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا} (5)

ولما ذكر هذه المآثر الشريفة التي هي الكمال ، وكان الكمال لا يصفو إلا مع مساعدة الأقدار ، فإن الهمم إذا عظمت اتسعت مجالاتها ، فإذا حصل فيها تعطيل حصل فيها نكد حسبه ، بين أنه أزال عنه العوائق في عبارة دالة على أن سبب المنحة بهذه الكمالات هو ما كان صلى الله عليه وسلم فيه من الصبر على الأكدار ، وتجرع مرارات الأقدار ، فقال مؤكداً ترغيباً في حمل مثل ذلك رجاء في الإثابة بما يليق من هذه المعالي مبالغاً في الحث على تحمله بذكر المعية إشارة إلى تقارب الزمنين بحيث إنهما كانا كالمتلازمين مسبباً عما مضى ذكره من حاله من الضحى : { فإن } أي فعل بك سبحانه هذه الكمالات الكبار بسبب أنه قضى في الأزل قضاء لا مرد له ولا معقب لشيء منه أن { مع العسر } أي هذا النوع خاصة { يسراً * } أي عظيماً جداً يجلب به المصالح ويشرح به ما كان قيده من القرائح ، فإن أهل البلاء ما زالوا ينتظرون الرخاء علماً منهم بالفطرة الأولى التي فطر الناس عليها أنه المتفرد بالكمال ، وأنه الفاعل بالاختيار لنسمه الكوائن بأضدادها ، وقد أجرى سنته القديمة سبحانه وتعالى بأن الفرج مع الكرب ، فلما قاسى صلى الله عليه وسلم مما ذكر في الضحى من اليتم الشديد وضلال قومه العرب خاصة كلهم الذين ألهمه الله تعالى مخالفتهم في أصل الدين بتجنب الأوثان ، وفي فرعه بالوقوف مع الناس في الحج في عرفة موقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومن العيلة ما لم يحمله أحد حتى كان بحيث يمتن سبحانه وتعالى عليه بإنقاذه منه في كتابه القديم وذكره الحكيم ، وكان مع تحمل ذلك قائماً بما يحق له من الصبر ويعلو إلى معالي الشكر " فيحمل " - كما قالت الصديقة الكبرى خديجة رضي الله تعالى عنها - " الكَلَّ ، ويقري الضيف ، ويصل الرحم ، ويعين على نوائب الحق " .

ثم حمل أعباء النبوة فكان يلقى من قومه من الأذى والكرب والبلاء ما لم يحمله غيره ، بشره الله تعالى بأنه ييسر له جميع ذلك ويلين قلوبهم فيظهر دينه على الدين كله ، ويغني أصحابه رضي الله عنهم بعد عيلتهم ، ويكثرهم بعد قلتهم ، ويعزهم بعد ذلتهم ، ويصير هؤلاء المخالفون له أعظم الأعضاد ، وينقاد له المخالف أتم انقياد ، ويفتح له أكثر البلاد ، ليكون هذا العطاء في اليسر بحسب ما كان وقع من العسر ، فإنه قضى سبحانه وتعالى قضاء لا يرتد أنه يخالف بين الأحوال ، دليلاً قاطعاً على أنه تعالى وحده الفعال ، وأن فعله بالاختيار ، لا بالذات والإجبار .