الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ٱلَّذِيٓ أَنقَضَ ظَهۡرَكَ} (3)

" الذي أنقض ظهرك " أي أثقله وأوهنه . قال : وإنما وصفت ذنوب الأنبياء بهذا الثقل ، مع كونها مغفورة ، لشدة اهتمامهم بها ، وندمهم منها ، وتحسرهم عليها . وقال السدي : " ووضعنا عنك وزرك " أي وحططنا عنك ثقلك . وهي في قراءة عبد الله بن مسعود " وحططنا عنك وقرك{[16170]} " . وقيل : أي حططنا عنك ثقل آثام الجاهلية . قال الحسين بن المفضل : يعني الخطأ والسهو . وقيل : ذنوب أمتك ، أضافها إليه لاشتغال قلبه بها . وقال عبد العزيز بن يحيى وأبو عبيدة : خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بها ، حتى لا تثقل عليك . وقيل : كان في الابتداء يثقل عليه الوحي ، حتى كاد يرمي نفسه من شاهق الجبل ، إلى أن جاءه جبريل وأراه نفسه ، وأزيل عنه ما كان يخاف من تغير العقل . وقيل : عصمناك عن احتمال الوزر ، وحفظناك قبل النبوة في الأربعين من الأدناس ، حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر من الأدناس .


[16170]:في شواذ ابن خالويه: "وحططنا عنك وزرك" عن أنس بن مالك. "وحللنا وحططنا" جميعا عنه، وعن ابن مسعود.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ٱلَّذِيٓ أَنقَضَ ظَهۡرَكَ} (3)

ولذلك وصفه بقوله : { الذي أنقض ظهرك * } أي جعله وهو عماد بدنك تصوت مفاصله من الثقل كما يصوت الرحل الجديد إذا لز بالحمل الثقيل ، وذلك هو ما دهمه عندما أمر بإنذار قومه ومفاجأتهم بما يكرهون عن عيب دينهم وتضليل آبائهم وتسفيه حلومهم في التدين بدين لا يرضاه أدنى العقلاء إذا تأمل شيئاً من تأمل مع التجرد من حظ النفس مع ما عندهم من الأنفة والحمية وإلقاء الأنفس في المهالك لأدنى غضب ، فقال :

" يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة " فخفف سبحانه وتعالى عنه ذلك بما أظهر له من الكرامات وأيده به من المعجزات ، وضمن له من الحماية إلى أمور لا يحيط بها علماً إلا الذي أيده بها

{ والله يعصمك من الناس }[ المائدة : 67 ] حتى خف ذلك عليه ، فصار أشفق أهله عليه يمنعه من بعض الإبلاغ ويمسك بثوبه لئلا يخرج إلى النار فيقول لهم ذلك فيحصل له ما يكره فيجذب نفسه منه ويخرج إليهم فيخبرهم كما وقع في أمر الإسراء وغيره ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو أن جبريل عليه الصلاة والسلام شق صدره فأخرج منه قلبه فشرحه وأخرج منه علقة سوداء فأنقاه وغسله ثم ملأه علماً وإيماناً وحكمة ، يعني فصار يحتمل ما لا يحتمله غيره ، وخف عليه ما يثقل على غيره ، ولا شك أن ذلك وزر لغوي ، وهو واضح ، وشرعي بالمال على تقدير ترك الامتثال اللازم للاستثقال ، وقد أعاذه الله من ذلك .

وقال الأستاذ أبو جعفر ابن الزبير : معنى هذه السورة من معنى السورة قبلها ، وحاصل السورتين تعداد نعمه سبحانه وتعالى عليه ، فإن قلت : فلم فصلت سورة ألم نشرح ولم ينسق ذكر هذه النعم في سورة واحدة ، قلت : من المعهود في البشر فيمن عدد على ولده أو عبده نعماً أن يذكر له أولاً ما شاهد الحصول عليه منها بسببه مما يمكن أن يتعلق في بعضها بأن ذلك وقع جزاء لا ابتداء ، فإذا استوفى له ما قصده من هذا ، أتبعه بذكر نعم ابتدائية قد كان ابتداؤه بها قبل وجوده كقول الأب مثلاً لابنه : ألم أختر لأجلك الأم والنفقة حيث استولدتك وأعددت من مصالحك كذا وكذا ، ونظير ما أشرنا إليه بقوله سبحانه لزكريا عليه الصلاة والسلام

{ ولم تك شيئاً }[ مريم : 9 ] وقد قدم له { إنا نبشرك بيحيى }[ مريم : 7 ] وتوهم استبداد الكسبية في وجود الولد غير خافية في حق من قصر نظره ولم يوفق فابتدىء بذكرها ثم أعقب بما لا يمكن أن يتوهم فيه ذلك ، وهو قوله :

( وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً }[ مريم : 9 ] وله نظائر من الكتب وعليه جاء ما ورد في هاتين السورتين - والله أعلم - انتهى .