الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{لِّيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ} (4)

قولهم : { لاَ تَأْتِينَا الساعة } نفي للبعث وإنكار لمجيء الساعة . أو استبطاء لما قد وعدوه من قيامها على سبيل الهزء والسخرية ، كقولهم : { متى هذا الوعد } [ يونس : 48 ] ، [ الأنبياء : 38 ] . أوجب ما بعد النفي ببلى على المعنى : أن ليس الأمر إلا إتيانها ، ثم أعيد إيجابه مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد ، وهو التوكيد باليمين بالله عزّ وجلّ .

ثم أمد التوكيد القسمي إمداداً بما أتبع المقسم به من الوصف بما وصف به ، إلى قوله : { لِّيَجْزِىَ } لأنّ عظمة حال المقسم به تؤذن بقوّة حال المقسم عليه وشدّة ثباته واستقامته ، لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر ، وكلما كان المستشهد به أعلى كعباً وأبين فضلاً وأرفع منزلة ، كانت الشهادة أقوى وآكد ، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ .

فإن قلت : هل للوصف الذي وصف به المقسم به وجه اختصاص بهذا المعنى ؟ قلت : نعم وذلك أن قيام الساعة من مشاهير الغيوب ، وأدخلها في الخفية ، وأوّلها مسارعة إلى القلب : إذا قيل : عالم الغيب ، فحين أقسم باسمه على إثبات قيام الساعة ، وأنه كائن لا محالة ، ثم وصف بما يرجع إلى علم الغيب ، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات ، واندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة ، فجاء ما تطلبه من وجه الاختصاص مجيئاً واضحاً .

فإن قلت : الناس قد أنكروا إتيان الساعة وجحدوه ، فهب أنه حلف لهم بأغلظ الأيمان وأقسم عليهم جهد القسم ، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على الله كذباً كيف تكون مصححة لما أنكروه ؟ قلت : هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها الحجة القاطعة البينة الساطعة وهي قوله : { لِّيَجْزِىَ } فقد وضع الله في العقول وركب في الغرائز وجوب الجزاء ، وأن المحسن لا بدّ له من ثواب ، والمسيء لا بدّ له من عقاب . وقوله : { لِّيَجْزِىَ } متصل بقوله { لَتَأْتِيَنَّكُمْ } تعليلاً له . قرىء : «لتأتينكم » بالتاء والياء . ووجه من قرأ بالياء : أن يكون ضميره للساعة بمعنى اليوم . أو يسند [ إلى ] عالم الغيب ، أي ليأتينكم أمره كما قال تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } [ الأنعام : 158 ] وقال : { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ } [ النحل : 33 ] . وقرىء : «عالم الغيب » و «علام الغيب » : بالجرّ ، صفة لربي . وعالم الغيب ، وعالم الغيوب : بالرفع ، على المدح . ولا يعزب : بالضم والكسر في الزاي ، من العزوب وهو البعد . يقال : روض عزيب : بعيد من الناس { مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } مقدار أصغر نملة { ذلك } إشارة إلى مثقال ذرّة . وقرىء : «ولا أصغر من ذلك ولا أكبر » . بالرفع على أصل الابتداء . وبالفتح على نفي الجنس ، كقولك : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، بالرفع والنصب . وهو كلام منقطع عما قبله .

فإن قلت : هل يصحّ عطف المرفوع على مثقال ذرّة ، كأنه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرة وأصغر وأكبر وزيادة ، لا لتأكيد النفي . وعطف المفتوح على ذرّة بأنه فتح في موضع الجرّ لامتناع الصرف ، كأنه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرّة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر ؟ قلت : يأبى ذلك حرف الاستثناء ، إلاّ إذا جعلت الضمير في { عَنْهُ } للغيب . وجعلت { الغيب } اسماً للخفيات . قبل أن تكتب في اللوح لأنّ إثباتها في اللوح من البروز عن الحجاب ، على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ، ولا يزل عنه إلاّ مسطوراً في اللوح .