قوله : { ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ } فيه سبعة أقوال :
أحدها : وهو الظاهر أن " أنتم " في محل رفع بالابتداء ، وهؤلاء خبره و " تقتلون " حال ، والعامل فيها اسم الإشارة لما فيه من معنى الفِعْل ، وهي حال منه ليتّحد ذُو الحال وعاملها .
وقد قالت العرب : " ها أنت ذا قائماً " و " ها أنا ذا قائماً " و " ها هوذَا قائماً " فأخبروا باسم الإشارة عن الضَّمير في اللَّفظ والمعنى على الإخبار بالحال ، فكأنه قال : " أنت الحاضر " ، " وأنا الحاضر " ، " وهو الحاضر " في هذه الحالة .
ويدل على أن الجملة من قوله : " تَقْتُلُونَ " حال وقوع الحال الصريحة موقعها كما تقدم في : " ها أنا ذا قائماً " ونحوه ، وإلى هذا المعنى نَحَا الزمخشري فقال : { ثُمّ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ } استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارِهم وشَهَادتِهم ، والمعنى : ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون : يعني أنكم قوم آخرون غيرُ أولئك المقربين ، تنزيلاً لتغير الصّفة منزلة تغير الذَّات كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به .
وقوله : " تَقْتُلُونَ " بيان لقوله : { ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ } .
واعترضه أبو حَيّان فقال : الظاهر أن المشار إليهم بقوله : { ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ } هم المخاطبون أولاً ، فليسوا قوماً آخرين ، ألا ترى أن التقدير الذي قَدَّره الزمخشري من تقدير [ تغير الصّفة منزلة ] تغيّر الذات لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائماً ، ولا في نحو : ها أنتم هؤلاء ، بل المُخَاطب هو المشار إليه من غير تَغَيُّرٍ .
وأجيب بأن هذا الإيراد بعيد غير واضح .
والثاني : أن " أنتم " أيضاً مبتدأ ، و " هؤلاء " خبره ، ولكن بتأويل حذف مضاف تقديره : ثم أنتم مِثْلُ هؤلاء ، و " تقتلون " حال أيضاً ، العامل فيها معنى التشبيه ، إلا أنه يلزم منه الإشَارة إلى غائبين ؛ لأن المراد بهم أَسْلاَفهم على هذا ، وقد يقال : إنه نزل الغائب منزلة الحاضر .
الثالث : ونقله " ابن عطية " عن شيخه " ابن الباذش{[1]} " أن " أنتم " خبر مقدم ، و " هؤلاء " مبتدأ مؤخر . وهذا فاسد ؛ لأن المبتدأ أو الخبر متى استويا تعريضاً وتنكيراً لم يَجُزْ تقدم الخبر ، وإن ورد منه ما يوهم فمتأول .
الرابع : أن " أنتم " مبتدأ و " هؤلاء " مُنَادى حذف منه حرف النِّدَاء ، وتقتلون خبر المبتدأ ، وفصل بالنداء بين المبتدأ وخبره .
وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به " الفراء " وجماعة ؛ أنشدوا : [ البسيط ]
629- إِنَّ الأُلَى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ *** هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولاَ
أي : يا هذا ، وهذا لا يجوز عند البصريين ، ولذلك لُحِّنَ المتنبي في قوله : [ الكامل ]
630- هَذِي بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيسَا *** . . .
الخامس : أن " هؤلاء " موصول بمعنى " الذي " ، و " تقتلون " صلته ، وهو خبر عن " أنتم " أي : أنتم الذين تقتلون . وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به " الفراء " وجماعة ؛ أنشدوا : [ البسيط ]
631- . . . *** نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
أي : والذي تحملين ، ومثله : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } [ طه : 17 ] يعني : وما التي ؟
السادس : أنَّ " هؤلاء " منصوب على الاختصاص ، بإضمار " أعني " و " أنتم " مبتدأ ، و " يقتلون " خبره ، اعترض بينهما بجملة الاختصاص ، وإليه ذهب ابن كَيْسَان . وهذا لا يجوز ، لأن النحويين قد نصّوا على أن الاختصاص لا يَكُون بالنكرات ، ولا أسماء الإشارة ، والمستقرأ من لسان العرب أن المنصوب على الاختصاص : إما " أي " نحو : " اللهم اغفر لنا أيتها العِصَابة " أو معرف ب " أل " نحو : نحن العَرَبَ أَقْرَى النَّاس للضيف ، أو بالإضافة نحو : نحن مَعَاشِرَ الأنبياء لا نورّث ، وقد يجيء كقوله : [ الرجز ]
632- بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ *** . . .
وأكثر ما يجيء بعد ضمير تكلُّم كما تقدم ، وقد يجيء مخاطب كقولهم : " بك الله نرجو الفضل " .
السابع : أن يكون " أَنْتُمْ هَؤُلاَء " على ما تقدّم من كونهما مبتدأ أو خبر ، والجُمْلة من " تقتلون " مستأنفة مبينة للجملة قبلها ، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى ، وبيان حَمَاقتكم وقلّة عقولكم أنكم تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقاً منكم من دِيَارِهِمْ ، وهذا ذكره الزَّمخشري في سورة آل عمران في قوله : { هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ } [ آل عمران : 66 ] ولم يذكر هنا ، وسيأتي بنصه إن شاء الله تعالى .
قوله : " تَظَاهَرُونَ " هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل " تُخْرجون " وفيها خمس قراءات : " تَظَّاهرُون " بتشديد الظَّاء ، والأصل : تتظاهرون فأُدغم لقرب الظاء من التاء .
و " تَظَاهَرُون " مخففاً ، والأصل كما تقدم ، إلا أنه خفّفه بالحذف ، وهل المحذوف الثانية وهو الأَوْلَى ؛ لحصول الثقل بها ، ولعدم دلالتها على معنى المُضَارعة ، أو الأُولَى ؛ كما زعم هشام ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
633- تَعَاطَسُونَ جَمِيعاً حَوْلَ دَارِكُمُ *** فَكُلُّكُمْ يَا بَنِي حَمْدَانَ مَزكُومُ
و " تَظَّهَّرُون " بتشديد الظاء والهاء .
و " تَظَاهَرُون " من " تَظَاهر " و " تَتَظَاهَرُونَ " على الأصل من غير حذف ، ولا إدْغَام وكلهم يرجع إلى معنى المعاونة والتَّنَاصُر من المظاهرة ، كأن كل واحد منهم يسند ظَهْرَهُ للآخر ليتقوّى به ، فيكون له كالظَّهر ؛ قال : [ الطويل ]
634- تَظَاهَرْتُمُ أَسْتَاهَ بَيْتٍ تَجَمَّعَتْ *** عَلَى وَاحِدٍ لاَ زِلْتُمُ قِرْنَ وَاحِدِ
قال ابن الخطيب : الآية تدلّ على أن الظُّلم كما هو محرم ، فإعانة الظالم على ظلمه محرمة .
فإن قيل : أليس أن الله تعالى لما أقدر الظَّالم على الظّلم ، وأزال العوائق والموانع ، وسلط عليه الشهوة الدّاعية إلى الظلم كان قد أعانه على الظلم ، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحةً لوجب ألاَّ يوجد ذلك من الله تعالى ؟
والجواب : أنه تعالى وإن مكّن الظَّالم من ذلك فقد زَجَرَهُ عن الظلم بالتَّهْديد والزجر ، بخلاف المعين للظالم على ظلمه ، فإنه يرغبه فيه ، ويحسنه له ويدعوه إليه فظهر الفرق .
و " الإثم " في الأصل : الذنب ، وجمعه " آثام " ، ويطلق على الفعل الذي يستحقّ به صاحبه الذّم واللوم .
وقيل : هو ما تَنْفِرُ منه النفس ، ولا يطمئنّ إليه القَلْب ، فالإثْمُ في الآية يحتمل أن يكون مراداً به [ أحد ] هذه المعاني ويحتمل أن يتجوّز به عما يوجب الإثم من إقامة السَّبب مقام السَّبب مقام المسبب ؛ كقوله : [ الوافر ]
635- شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي *** كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُولِ
فعبر عن الخمر بالإثم ، لما كان مسبَّباً عنها .
و " العُدْوَان " : التجاوز في الظلم ، وقد تقدم في { يَعْتَدُونَ } [ البقرة : 61 ] وهو مصدر ك " الكُفْرَان والغُفْرَان " والمشهور ضمّ فائه ، وفيه لغة بالكَسْر .
قوله : { وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ } " إن " شرطية ، و " يأتوكم " مجزوم بها بحذف النون ، والمخاطب مفعول .
و " أسارى " حال من الفاعل في " يأتوكم " .
وقرأ الجماعة غير حمزة " أُسارى " وقرأ هو : " أَسْرَى " وقرئ : " أَسَارَى " بفتح الهمزة ، فقراءة الجماعة تحتمل أربعة أوجه :
أحدها : أنه جُمِعَ جَمْع " كَسْلاَن " لما جمعهما من عدم النَّشَاط والتصرف ، فقالوا : " أسير وأسارى " بضم الهمزة ك " كَسْلاَن وكُسَالَى " و " سَكْرَان وسُكَارى " ، كما أنه قد شبه كَسْلان وسَكْران به فجمعا جمعه الأصلي الذي هو على " فعلى " فقالوا : كسلان وكَسْلى ، وسكران وسَكْرى لقولهم : أسير وأسرى .
قال سيبويه : فقالوا : في جمع كَسْلان كَسْلَى شبّهوه ب " أَسْرَى " . كما قالوا : أُسارى شبَّهوه ب " كَسَالى " ، ووجه الشبه أنَّ الأسْر يدخل على المرء كرهاً كما يدخل الكَسَل .
قال بعضهم : والدَّليل على اعتبار هذا المعنى أنهم جمعوا " مريضاً وميتاً وهالكاً " على " فَعْلَى " فقالوا : " مرضى وموتى وهَلْكَى " لما جمعها المَعْنَى الذي في " قَتْلَى وجَرْحَى " .
الثَّاني : أنَّ " أُسَارى " جمع " أسير " ، وقد وجدنا " فَعِيلاً " يجمع على " فُعَالى " قالوا : شيخ قديم ، وشيوخ قُدَامى . وفيه نظر ، فإن هذا شاذّ لا يقاس عليه .
الثالث : أنه جمع " أسير " أيضاً ، وإنما ضموا الهمزة من " أُسَارى " وكان أصلها الفَتْح ك " نديم ونُدَامى " كما ضمت الكاف والسين من " كُسَالى " و " سُكَارى " وكان الأصل فيهما الفتح نحو : " عَطْشَان وعَطَاشى " .
الرابع : أنه جمع " أسرى " الذي هو جمع " أسير " فيكون جمع الجمع .
وأما قراءة حمزة فواضحة ؛ لأن " فَعْلَى " ينقاس في " فعيل " نحو : " جريح وجرحى " و " قتيل وقَتْلَى " و " مريض ومرضى " .
وأما " أَسَارَى " بالفتح فقد تقدم أنها أصل أُسَارَى بالضم عند بعضهم ، ولم يَعْرِفْ أهل اللُّغَة فرقاً بين " أُسَارَى " و " أَسْرَى " إلاَّ ما حكاه أبو عُبَيْدَة عن أبي عمرو بن العلاء ، فإنه قال : " ما كان في الوَثَاقِ فهم الأُسَارَى ، وما كان في اليد ، فهم الأَسْرَى " ونقل بعضهم عنه الفرقَ بمعنًى آخر ، فقال : " ما جاء مستأسراً فهم الأسْرَى ، وما صار في أيديهم ، فهم الأُسَارَى " ، وحكى النقَّاشُ عن ثَعْلَبٍ ؛ أنه لما سمع هذا الفَرْق قال : " هذا كلامُ المَجَانِينِ " ، وهي جُرْأة منه على أبي عمرو ، وحكي عن المبرِّد أنه يقال : " أسِير وأُسَرَاء " ك " شَهِيدٍ وشُهَدَاء " و " الأَسِير " : مشتقٌّ من " الإسَارِ " وهو القَيْدُ الذي يُرْبَطُ به من المحمل ، فسمي الأسير أسيراً ، وإن لم يُرْبَط ، والأَسْر : الخلْقُ في قوله : { وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } [ الإنسان : 29 ] وأُسْرَة الرَّجْل : من يتقوَّى بهم ، والأُسْر : احتباس البَوْل ، ورجل مَأْسُور : أصابه ذلك ؛ وقالت العربُ : أسَرَ قَتَبَهُ : أي : شَدَّه ؛ قال الأعشى : [ المتقارب ]
636- وَقَيَّدَنِي الشِّعْرُ في بَيْتِهِ *** كَمَا قَيَّدَ الآسِرَاتُ الحَمَارَا
يريد : أنه بلغ في الشعر النّهاية ؛ حتى صار له كالبيت الذي لا يَبْرَحُ عنه .
قوله : " تُفَادُوهُمْ " قرأ نافع وعاصم والكسائي : " تُفَادُوهُمْ " ، وهو جواب الشرط ، فلذلك حذفت نون الرفع ، وقرأ الباقون : " تَفْدُوهُمْ " ، وهل القراءتان بمعنى واحد ، ويكون معنى " فَاعَل " مثل معنى " فَعَل " المجرد مثل : " عاقبت وسَافرت " أو بينهما فرق ؟ خلاف مشهور ، ثم اختلف الناس في ذلك الفرق ما هو ؟
فقيل : معنى " فَدَاه " أعطى فيه فِدَاء من مال ، و " فَادَاهُ " : أعطى فيه أسيراً مثله ؛ وأنشد : [ الطويل ]
637- وَلَكِنَّنِي فَادَيْتُ أُمِّيَ بَعْدَمَا *** عَلاَ الرَّأْسَ مِنْهَا كَبْرَةٌ وَمَشِيبُ
وهذا القول يرده قول العباس رضي الله عنه : فَادَيْتُ نفسي وفاديت عقيلاً ، ومعلوم أن لم يُعْط أسيره في مقابلة نفسه ولا وَلَدِهِ .
وقيل : تفدوهم بالصّلح ، وتفادوهم بالعنف .
وقيل : تفدوهم تعطوا فديتهم ، وتفادوهم تطلبون من أعدائكم فِدْيَةَ الأسير الذي في أيديكم ؛ ومنه : [ الوافر ]
638- قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إنَّ قَوْمِي *** وَقَوْمَكِ مَا أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا
والظاهر أن " تفادوهم " على أصله من اثنين ، وذلك أن الأسير يعطى المال والأسير يعطى الإطلاق ، وتفدوهم على بابه من غير مُشَاركة ، وذلك أن الفريقين يَفدي صاحبه من الآخر بمال أو غيره ، فالفعل على الحقيقة من واحد .
و " الفِدَاء " ما يفتدى به ، فإذا كسروا فاءه ، جاز فيه وجهان :
المدُّ والقَصْر ، فمن المَدِّ قول النابغة : [ البسيط ]
639- مَهْلاً ، فِدَاءً لَكَ الأَقْوَامُ كُلُّهُمُ *** وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ
640- . . . *** فِدًى لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وتَالِدِي
ومن العرب من يكسر : " فدى " مع لام الجر خاصّة ، نحو : " فِدًى لَكَ أَبي وأمي " يريدون الدعاء له بذلك ، وفدى وفادى يتعدّيان لاثنين أحدهما بنفسه ، والآخر بحرف جر ، تقول : " فديت أو فاديت الأسير بمال " ، وهو محذوف في الآية الكريمة .
قال ابن عطية : وحَسُنَ لفظ الإتْيَان من حيث هو في مُقَابلة الإخراج ، فيظهر التَّضادّ المقبح لفعلهم في الإخراج .
يعني : أنه لا يناسب من أسأتم إليه بالإخراج من داره أن تحسنوا إليه بالفداء .
فصل فيما أخذ الله على بني إسرائيل
قال السّدي : إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ألاَّ يقتل بعضهم بعضاً ، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم ، وأيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه ، وكانت " قريظة " حلفاء " الأوس " ، " والنضير " حلفاء " الخزرج " ، وكانوا يقتلون في حرب سِنِيْنَ ، فيقاتل " بنو قريظة " مع حلفائهم ، " وبنو النضير " مع حلفائهم ، وإذا غلبوا خربوا ديارهم ، وأخرجوهم منها ، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه ، وإن كان الأسير من عدوّهم ، فتعيّرهم العرب ، ويقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم ؟ قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم ، فيقولون : فلم تقاتلونهم ؟ قالوا : إنا نستحي أن تذلّ حلفاؤنا ، فعيّرهم الله تعالى ، فقال : { ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ } .
وفي الآية تقديم وتأخير ، ونظمها : وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ، وهو محرم عليكم إخراجهم ، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم فكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود : ترك القتال ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم ، وفداء أسرائهم ، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء ، فقال عز وجل : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [ البقرة : 85 ] .
وقال مجاهد : يقول : إن وجدته في يد غيرك فديته ، وأنت تقتله بيدك .
قوله : " وَهُوَ مُحَرَّمٌ " فيه وجوه .
والظاهر منها : أن يكون " هو " ضمير الشأن والقصّة ، فيكون في محلّ رفع بالابتداء ، و " محرم " خبر مقدم ، وفيه ضمير قائم مقام الفاعل ، و " إخراجهم " مبتدأ مؤخر ، والجملة من هذا المبتدأ والخبر في محل رفع خبراً لضمير الشأن ، ولم تحْتَجْ هنا إلى عائد على المبتدأ ؛ لأن الخبر نفس المبتدأ أو عينه .
وهذه الجملة مفسرة لهذا الضمير ، وهو أحد المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده وقد تقدّمت ، وليس لنا من الضَّمائر ما يفسَّر بجملة غيرُ هذا الضمير ، ومن شرطه أن يؤتى به في مَوَاضع التَّعْظيم ، وأن يكون معمولاً للابتداء أو نواسخه فقط ، وأن يفسر بجملة مصرح بجزئيها ، ولا يُتبع بتابع من التَّوَابع الخمسة ، ويجوز تذكيره وتأنيثه مطلقاً خلافاً لما فصل ، فتذكيره باعتبار الأمر والشأن ، وتأنيثه باعتبار القصّة فتقول :
" هو زيد قائم " ، ولا يثنى ولا يجمع ، ولا يحذف إلا في مواضع تذكر إن شاء الله تعالى ، والكوفيُّون يسمونه ضمير المَجْهُول ، وله أحكام كثيرة .
الوجه الثاني : أن يكون " هو " ضمير الشأن أيضاً ، و " محرم " خبره ، و " إخراجهم " مرفوع على أنه مفعول لَمْ يسمّ فاعله . وهذا مذهب الكوفيين ، وإنما فَرُّوا من الوجه الأول ؛ لأن عندهم أن الخبر المحتمل ضميراً مرفوعاً لا يجوز تقديمه على المبتدأ ، فلا يقال : قائم زيد على أن يكون " قائم " خبراً مقدماً ، وهذا عند البصريين ممنوع لما عرفته أن ضمير الشأن لا يفسّر إلا بجملة ، والاسم المشتق الرافع لما بعده من قبيل المُفْرَدَات لا الجمل ، فلا يفسر به ضمير الشَّأن .
الثَّالث : أن يكون " هو " كناية عن الإخْرَاج ، وهو مبتدأ ، و " محرم " خبره ، و " إخراجهم " بدل منه ، وهذا على أحد القولين .
وهو جواز إبدال الظَّاهر من المضمر قبله ليفسره ، واستدلّ من أجاز ذلك بقوله : [ الطويل ]
641- عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ في الْقَوْمِ حَاتِماً *** عَلَى جُودِهِ لَضَنَّّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ
ف " حَاتم " بَدلٌ عن الضمير في " جُودِهِ " .
الرابع : أن يكون " هو " ضمير الإخراج المَدْلُولَ عليه بقوله : " وَتُخْرِجُونَ " و " مُحَرَّمٌ " خبره ، و " إخْرَاجُهُمْ " بدل من الضمير المستتر في " محرم " .
الخامس : كذلك ، إلا أن " إخراجهم " بدلٌ من " هو " . نقل هذين الوجهين أبو البقاء ، وفي هذا الأخير نظر ، وذلك أنك إذا جعلت " هو " ضمير الإخراج المدلول عليه بالفعل كان الضمير مفسراً به نحو : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] فإذا أبدلت منه " إخراجهم " المَلْفُوظَ به كان مَفسّراً به أيضاً ، فيلزم تفسيره بشيئين ، إِلاَّ أن يقال : هذان الشيئان في الحقيقة شيء واحد فيُحتمل ذلك .
السادس : أجاز الكوفيون أن يكون " هو " عماداً ، وهو الذي يسميه البصريون ضمير الفَصْل قُدّم مع الخبر ، والأصل : وإخراجهم هو محرم عليكم ، و " إخراجهم " مبتدأ ، و " محرم " خبره ، و " هو " عِمَاد ، فلما قدم الخبر قدم معه .
قال الفراء : لأن الواو هنا تطلب الاسم ، وكل موضع نطلب فيه الاسم فالعماد جائز وهذا عند البصريين ممنوع من وجهين :
أحدهما : أنَّ الفصل عندهم من شرطه أن يقع بين معرفتين أو بين معرفة ونكرة قريبة من المعرفة في امتناع دخول أل ك " أفعل من " ومثل وأخواتها .
والثاني : أن الفَصْل عندهم لا يجوز تقديمه مع ما اتصل به .
والسابع : قال ابن عطية : وقيل في " هو " : إنه ضمير الأمر ، والتقدير : والأمر محرم عليكم ، وإخراجهم في هذا القول بدل من " هو " .
وقال أبو حَيَّان : وهذا خطأ من وجهين :
أحدهما : تفسير ضمير الأمر بمفرده ، وذلك لا يجيزه بَصْري ولا كُوفي ، أما البصري فلاشتراطه جملة ، وأما الكوفي فلا بد أن يكون المفرد قد انتظم منه [ نحو " ظننته قائماً الزيدان " .
والثاني : أنه جعل " إخراجهم " ] بدلاً من ضمير الأمر ، وقد تقدم " أَلاَّ يُتْبَع بِتَابعٍ " .
الثامن : قال ابن عطيّة أيضاً : وقيل : هو فاصلة ، وهذا مذهب الكوفيين ، وليست هنا بالتي هي عماد ، و " مُحَرّم " على هذا ابتداء ، و " إخراجهم " خبر .
قال : أبو حيان والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب ، أي : يكون " إخراجهم " مبتدأ مؤخراً ، و " محرم " خبر مقدم قُدِّم مع الفَصْل كما تقدم ، وهو الموافق للقواعد ، ولا يلزم منه الإخبار بمعرفة عن نكرة من غير ضرورة تدعو إلى ذلك .
التاسع : نقله ابن عطيّة أيضاً عن بعضهم أن " هو " الضمير المقدر في " محرم " قدم وأظْهِر .
قال الشيخ : وهذا ضعيف جدّاً ؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى انفصال هذا الضمير بعد اسْتِتَارِهِ وتقديره ، وأيضاً فإنه يلزم خلوّ اسم المفعول من ضمير ؛ إذ على هذا القول يكون " محرم " خبراً مقدماً ، و " إخراجهم " مبتدأ مؤخراً ولا يوجد اسم فاعل ، ولا مفعول خالياً من الضمير إلاَّ إذا رفع الظَّاهر ، ثم يبقى هذا الضمير لا ندري ما إعرابه ، إذ لا يجوز مبتدأ ، ولا فاعلاً مقدماً وفي قول الشيخ : " يلزم خُلوُّه من ضمير " نظر ؛ إذ هو ضمير مرفوع به ، فلم يخل منه غاية ما في الباب أنه انفصل للتقديم .
وقوله : " لا ندري ما إعرابه " ؟ قد دري ، وهو الرفع بالفاعلية .
وقوله : والفاعل لا يقدم " ممنوع " فإن الكوفي يجيز تقديم الفَاعِلِ ، فيحتمل أن يكون هذا القائل يرى ذلك ، ولا شكّ أن هذا قول رديء منكر لا ينبغي أن يجوز مثله في الكلام ، فكيف في القرآن ! فالشيخ معذور ، والعجب من ابن عطية كيف يورد هذه الأشياء حاكياً لها ولم يُعَقِّبْها بنكير ؟
وهذه الجملة يجوز أن تكون محذوفةً من الجمل المذكورة قبلها ، وذلك أنه قد تقدم ذكر أربعة أشياء كلها محرمة وهي قوله : تقتلون أنفسكم وتخرجون [ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ ] ، وتظاهرون ، وتفادون فيكون التقدير : تقتلون أنفسكم وهو محرّم عليكم قتلها وكذلك مع البواقي .
ويجوز أن يكون خصّ الإخراج بذكر التحريم ، وإن كانت كلها حراماً ، لما فيه من معرَّة الجلاء والنّفي الذي لا ينقطع شرّه إلا بالموت والقَتْل ، وإن كان أعظمَ منه إلاَّ أن فيه قطعاً للشر ، فالإخراج من الدِّيَار أصعب الأربعة بهذا الاعتبار .
و " المحرم " : الممنوع ، فإن التَّحريم هو المَنْع من كذا ، والحَرَام : الشَّيء الممنوع منه ، يقال : حَرَامٌ عليك وحرم عليك وسيأتي تحقيقه في " الأنبياء " إن شاء الله تعالى .
فصل في المراد بالكفر والإيمان في الآية
اختلف العلماء في قوله : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } قال ابن عباس وقتادة وابن جريج : " إخراجهم كفر ، وفداؤهم إيْمَان ؛ لأنه ذمهم على المُنَاقضة ، إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض{[2]} " .
فإن قيل : هَبْ أن ذلك الإخراج كان معصيةً ، فَلِمَ سماها كفراً ؟ مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر .
فالجواب : لعلّهم صرحوا بأن ذلك الإخراج غير واجب مع أنّ صريح التوراة كان دالاً على وجوبه .
الثاني : أن المراد تمسّكهم بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام مع التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أن الحُجّة في أمرهما سواء .
قوله : { فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ } " ما " يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون نافية ، و " جزاء " مبتدأ ، و " إلاَّ خِزْيٌ " خبره وهو استثناء مفرّغ وبَطَلَ عملها عند الحِجَازيين لانتقاض النفي ب " إلاّ " ، وفي ذلك خلاف وتفصيل وتلخيصه : أن خبرها الواقع بعد " إلا " جمهور البصريين على وجوب رفعه مطلقاً سواءً كان هو الأول ، أو منزلاً منزلته ، أو صفة ، أو لم يكن ، ويتأولون قوله : [ الطويل ]
642- وَمَا الدَّهْرُ إِلاَّ مَنْجَنُوناً بِأَهْلِهِ *** وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إِلاَّ مُعَذَّبَا
على أن الناصب ل " منجنوناً " و " معذباً " محذوف ، أي : يدور دَوَرَان منجنون ، ويعذب مُعَذَّباً تَعْذِيباً .
وأجاز يونس النصب مطلقاً ، وإن كان النَّحَّاس نقل عدم الخلاف في رفع ما زيد إِلاَّ أخوك فإن كان الثَّاني منزلاً منزلة الأوّل نحو : " ما أنت إِلاَّ عمامتك تحسيناً وإلاَّ رداءك تزييناً " . فأجاز الكوفيون نصبه ، وإنْ كان صفة نحو : " ما زيد إلا قائم " فأجاز الفراء نصبه أيضاً .
والثاني : أن تكون استفهاميةً في محلّ رفع بالابتداء ، و " جزاء " خبره ، و " إِلاَّ خِزْي " بدل من " جزاء " نقله أبو البَقَاءِ .
و " الجزاء " : المقابلة خَيْراً كان أو شَرًّا .
و " مَنْ " موصولة ، أو نكرة موصوفة ، و " يفعل " لا محلّ لها على الأول ، ومحلها الجر على الثاني .
" مِنْكُمْ " في محلّ نصب على الحال من فاعل " يفعل " ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : يفعل ذلك حال كونه منكم .
و " الخِزْي " : الهَوَان والذّل والمَقْت ، يقال : أخزاه الله إذا مَقَتَهُ وأبعده ، ويقال : خَزِيَ بالكسر يَخْزى خِزْياً فهو خَزْيَان ، وامرأة خَزْيَا ، والجمع خَزَايَا . وقال ابن السِّكِّيت : الخزي الوقوع في بَلِيَّةٍ ، وخَزِيَ الرجل في نفسه يخزى خزايةً إذا استحيا .
وإذا قيل : أخْزَاه الله ، كأنه قيل : أوقعه موقعاً يُستحيى منه ، فأصله على هذا الاستحياء .
قوله : " فِي الْحَيَاةِ " يجوز فيه وَجْهَان :
أحدهما : أن يكون في محلّ رفع ؛ لأنه صفة ل " خِزْي " فيتعلّق بمحذوف ، أي : خِزْيٌ كائن في الحياة .
الثَّاني : أن يكون محلّه النصب على أنه ظرف ل " خِزْي " ، فهو منصوب به تقديراً .
و " الدُّنْيَا " " فُعْلَى " تأنيث الأدنى من الدّنو ، وهو القُرْب ، وألفها للتأنيث ، ولا تحذف منها " أل " إلا لضرورة كقوله : [ الرجز ]
643- يَوْمَ تَرَى النُّفُوسُ مَا أَعَدَّتِ *** في سَعْيِ دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مُدَّتِ
وياؤها عن واو ، وهذه قاعدة مطردة ، وهي : كل " فُعْلَى " صفة لامها واو تبدل ياء ، نحو " الدنيا والعُلْيَا " .
فأما قولهم : " القُصْوَى " عند غير " تميم " ، و " الحُلْوَى " عند الجميع فَشَاذٌّ .
فلو كانت " فُعْلَى " اسماً صحّت الواو ؛ كقوله : [ الطويل ]
644- أَدَارًا بِحُزْوَى هِجْتِ لِلْعَيْنِ عَبْرَةً *** فَمَاءُ الْهَوَى يَرْفَضُّ أَوْ يَتَرَقْرَقُ
وقد استعملت استعمال الأسماء ، فلم يذكر [ موصوفها ، قال تعالى : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } [ الأنفال : 67 ] وقال ابن السّراج في " المقصور والممدود " : و " الدنيا " ] مؤنّثة مقصورة ، تكتب بالألف ، هذه لغة " نجد " و " تميم " ، إلاَّ أن " الحجاز " ، " وبني أسد " يلحقونها ونظائرَهَا بالمَصَادر ذوات الواو ، فيقولون : دَنْوَى مثل شَرْوَى وكذلك يفعلون بكل " فُعْلَى " موضع لامها واو ، ويفتحون أولها ، ويقلبون باءها واواً ، وأما أهل اللغة الأولى ، فيضمون الدال ، ويقلبون من الواو ياء لاستثقالهم الواو مع الضمة .
فصل في المراد بالخِزْي في الآية
اختلفوا في هذا الخِزْي على وجوه :
أحدها : قال الحَسَن : وهو الجزية والصَّغَار ، وهو ضعيف ؛ لأن الجِزْيَةَ لم تكن ثابتةً في شريعتهم ، بل إن حملنا الآية على خطاب الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيصحّ .
الثاني : خِزْي " بني قريظة " بالقَتْل والسَّبي ، وخزي بني النَّضير بالجَلاَء والنفي عن منازلهم إلى " أَذْرعات " و " أريحا " من " الشام " ، وهذا أيضاً إنما يصحّ إذا حملنا الآية على الحاضرين في زمان محمد صلى الله عليه وسلم .
الثالث : قال ابن الخَطِيْبِ وهو الأولى : إنّ المراد منه الذَّمّ العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص ذلك ببعض الوجوه دون بعض ، والتنكير في قوله : " خزي " يدلّ على أن الذّم واقع في النهاية العظمى .
[ وقوله ] يُرَدُّونَ [ قرئ ] بالغيبة على المشهور وفيه وجهان .
أحدها : أن يكون التفاتاً ، فيكون راجعاً إلى قوله " أَفَتُؤْمِنُونَ " فخرج من ضمير الخطاب إلى الغيبة .
والثَّاني : أنه لا التفات فيه ، بل هو راجع إلى قوله : " مَنْ يَفْعَلْ " .
وقرأ الحسن : " تُرَدُّون " بالخطاب وفيه الوجهان المتقدمان :
فالالتفات نظراً لقوله : " مَنْ يَفْعَلْ " ، وعدم الالتفات نظراً لقوله : " أَفَتُؤْمِنُونَ " .
وكذلك : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } قرئ في المشهور بالغيبة والخطاب والكلام فيهما كما تقدم .
فإن قيل : عذاب الدّهري الذي ينكر الصَّانع يجب أن يكون أَشدَّ من عذاب اليهود ، فكيف يكون في حقّ اليهود { يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } ؟
فالجواب : المراد منه أشد من الخِزْي الحاصل في الدنيا ، فلفظ الأشد وإن كان مطلقاً إلاّ أن المراد أشد من هذه الجهة .