اتفقوا على أنّ هذا الكتاب غير ما هو معهم ، وما ذاك إلاَّ القرآن .
قوله : { مِنْ عِندِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه في محلّ رفع صفة ل " كتاب " ، فيتعلّق بمحذوف ، أي كتاب كائن من عند الله .
والثَّاني : أن يكون في محلّ نصب لابتداء غاية المجيء قاله أبو البقاء .
وقد رد أبو حيان هذا الوجه فقال لا يقال : إنه يحتمل أن يكون " من عند الله " متعلقاً ب " جَاءَهُمْ " ، فلا يكون صفةً ، للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما يعني أنه ليس معمولاً للموصوف ولا للصفة ، فلا يفتقر الفصل به بينهما .
والجمهور على رفع " مصدق " على أنه صفة ثانية ، وعلى هذا يقال : قد وجد صفتان إحداهما صريحة ، والأخرى مؤولة ، وقد قدّمت المؤولة .
وقد تقدم أن ذلك غير ممتنع ، وإن زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا ضَرُورَةً .
والذي حسن تقديم غير الصريحة أن الوصف بكينونته من عند الله آكد ، وأن وصفه بالتصديق ناشئ عن كونه من عند الله .
وقرأ{[1441]} ابن أبي عبلة : " مصدقاً " نصباً ، وكذلك هو في مصحف أُبَيّ ، ونصبه على الحال ، وفي صاحبها قولان :
فإن قيل : كيف جاءت الحال من النكرة ؟
فالجواب : أنها قربت من المعرفة لتخصيصها بالصفة وهو " مِنْ عِند اللهِ " كما تقدم .
على أن سيبويه أجاز مجيئها منها بلا شَرْطٍ ، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري .
والثاني : أنه الضَّمير الذي تحمله الجار والمجرور لوقوعه صفةً ، والعامل فيها إما الظرف ، أو ما يتعلق به ، ولهذا اعترض بعضهم على سيبويه في قوله : [ مجزوء الوافر ]
654- لِمَيَّةَ مَوحِشاً طَلَلُ *** يَلَوحُ كَأَنَّه خِلَلُ{[1442]}
إن " موحشاً " حال من " طَلَل " ، وساغ ذلك لتقدمه ، فقال : لا حاجة إلى ذلك ، إذ يمكن أن يكون حالاً من الضمير المستكنّ في قوله : " لِمَيَّةَ " الواقع خبراً ل " طَلَل " ، وجوابه في موضع غير هذا . واللام في " لما معهم " وقعت لتعدية " مصدق " لكونه فرعاً . و " ما " موصولة ، والظَّرف صلتها ، ومعنى كونه مصدقاً ، أي : موافقاً لما معهم من التوراة في أمر يتعلّق بتكاليفهم بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، وما يدلّ عليها من العلامات والنعوت ، فإنهم عرفوا أنه ليس بموافق لما مَعَهُمْ في سائر الشَّرائع ، وعلمنا أنه لم ترد الموافقة في أدلّة القرآن ؛ لأن جميع كتب الله كذلك ، فلم تبق إلاَّ الموافقة فيما ذكرناه .
قوله : " وَكَانُوا " يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون معطوفاً على " جاءهم " فيكون جواب " لما " مرتباً على المجيء والكون .
والثاني : أن يكون حالاً ، أي : وقد كانوا ، فيكون جواب " لما " مرتباً على المجيء بقيد في مفعوله ، وهم كونهم يستفتحون .
قال أبو حيان : وظاهر كلام الزمخشري أن " وكانوا " ليست معطوفة على الفعل بعد " لما " ، ولا حالاً ، لأنه قدر جواب " لما " محذوفاً قبل تفسيره يستفتحون ، فدلَّ على أن قوله : " وكانوا " جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله : " ولما " . وهذا هو الثالث .
و " مِنْ قَبْلُ " متعلق ب " يستفتحون " ، والأصل : من قبل ذلك ، فلما قطع بني على الضم .
و " يَسْتَفْتِحُونَ " في محل نصب على أنه خبر " كان " .
واختلف النحويون في جواب " لما " الأولى والثانية .
فذهب الأخفش{[1443]} والزَّجاج{[1444]} إلى أن جواب الأولى محذوف تقديره : ولما جاءهم كتاب كفروا به ، وقدّره الزمخشري : " كذبوا به واستهانوا بمجيئه " . وهو حسن ، ونظيره قوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ }
[ الرعد : 31 ] أي : لكان هذا القرآن .
وذهب الفَرّاء إلى أن جوابها الفاء الداخلة على " لما " ، وهو عنده نظير قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ } [ البقرة : 38 ] قال : ولا يجوز أن تكون الفاء ناسقة ، إذ لا يصلح موضعها " الواو " .
و " كَفَرُوا " جواب " لما " الثانية على القولين .
وقال أبو البَقَاءِ{[1445]} : في جواب " لما " الأولى وجهان :
أحدهما : جوابها " لما " الثانية وجوابها ، وهذا ضعيف ؛ لأن " الفاء " مع " لما " الثانية ، و " لما " لا تجاب بالفاء إلاَّ أن يعتقد زيادة " الفاء " على ما يجيزه الأخفش .
قال شهاب الدين{[1446]} : ولو قيل برأي الأخفش في زيادة " الفاء " من حيث الجملة ، فإنه لا يمكن هاهنا لأن " لما " لا يجاب بمثلها ، لا يقال : " لما جاء زيد لما قعد أكرمتك " على أن يكون " لما قعد " جواب " لما جاء " والله أعلم .
وذهب المبرد إلى أن " كفروا " جواب " لما " الأولى ، وكررت الثَّانية لطول الكلام ، ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيده كقوله تعالى : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ } إلى قوله : { أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ } [ المؤمنون : 35 ] ، وهو حسن لولا أن " الفاء " تمنع من ذلك .
وقال أبو البقاء بعد أن حكى وجهاً أول : والثاني : أن " كفروا " جواب الأولى والثانية ؛ لأن مقتضاها واحد .
وقيل : الثانية تكرير ، فلم تحتج إلى جواب .
فقوله : وقيل : الثانية تكرير ، هو قول المبرّد ، وهو في الحقيقة ليس مغايرةً للوجه الذي ذكره قبله من كون " كفروا " جواباً لهما بل هو هو .
اختلفوا في هذا الاستفتاح ، فقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والسّدي : نزلت في بني " قريظة " و " النضير " كانوا يستفتحون على " الأوس "
و " الخزرج " برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المبعث{[1447]} .
وقال أبو مسلم : كانوا يقولون لمخالفيهم : غداً القتال هذا نبي قد أظلّ زمان مولده ، ويصفونه بأنه نبي ، ومن صفته كذا ، ويتفحّصون عنه على الذين كفروا ، أي : على مشركي العرب .
وقيل : إن اليهود وقبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يستفتحون أي : يسألون الفَتْح والنصر ، وكانوا يقولون : اللّهم افتح علينا ، وانصرنا بالنبي الأمّيّ [ المبعوث ]{[1448]} في آخر الزمان الذي نجد صِفَتَهُ في التوراة ، وكانوا يستنصرون ، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظلّ زماننا نبيٌّ يخرج بتصديق ما قلنا ، فنقتلكم معه قَتْلَ عَادٍ وإرَم ، فلما جاءهم ما عرفوا يعني محمداً صلى الله عليه وسلم من غير بني إسرائيل ، وعرفوا نَعْتَهُ وصدقه كفروا به بَغْياً{[1449]} .
[ وقيل : ]{[1450]} نزلت في أَحْبَار اليهود كانوا إذا قرأوا وذكروا محمداً في التوراة ، وأنه مبعوث من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصِّفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث وهذه الآية دلّت على أنهم كانوا عارفين بنبوته .
فإن قيل : التوراة نقلت نقلاً متواتراً ، فإما أن يقال : إنه حصل فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل التَّفصيل أعني بيان أن الشَّخص الموصوف بالصُّورة الفلانية ، والسيرة الفلانية سيظهر في السَّنة الفلانية في المكان الفُلاني ، أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه ، فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شَهَادَةِ التوراة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب ؟ وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة [ كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً فكيف قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } والجواب : أن الوصف المذكور في التوراة ]{[1451]} كان وصفاً إجمالياً ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف ، بل كانت كالمؤكدة ، فلهذا ذمهم الله تعالى على الإنكار .
قال ابن الخطيب{[1452]} : وأما كُفْرهم فيحتمل أنهم كانوا يظنّون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل ، وكانوا يرغبون النَّاس في دينه ، ويدعونهم إليه ، فلما بعث الله محمداً من العرب من نسل إسماعيل عَظُمَ ذلك عليهم ، فأظهروا التكذيب ، وخالفوا طريقهم الأول . وهذا فيه نظر ؛ لأنهم كانوا عالمين أنه من العرب .
ويحتمل أنهم لأجل اعترافهم بنبوّته كان يوجب عليهم زوال رِيَاسَتِهِمْ وأموالهم ، فَأَبَوْا وأصرُّوا على الإنكار .
ويحتمل أنهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصّة ، فلا جرم كفروا به .
قوله : { فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } جملة من مبتدأ أو خبر متسببة عمّا تقدم ، والمصدر هنا مضاف للفاعل ، وأتى ب " على " تنبيهاً على أن اللَّعْنة قد استعلت عليهم وشملتهم . وقال : " على الكافرين " ولم يقل : " عليهم " إقامة للظَّاهر مقام المضمر ، لينبّه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفر .