اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ لَا تَسۡفِكُونَ دِمَآءَكُمۡ وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ ثُمَّ أَقۡرَرۡتُمۡ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ} (84)

هذا الخطاب كله كالذي قبله : وقوله : { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } كقوله : { لاَ تَعْبُدُونَ إلاَّ اللهَ } في الإعراب سواء .

و " تُسْفِكُونَ " من " أَسْفَك " الرّباعي .

وقرأ طلحة بن مصرف ، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء وهي لغة ، وأبو نهيك " تُسَفِّكُونَ " بضم التاء ، وفتح السين ، وتشديد الفاء .

و " وَلاَ تْخْرِجُونَ " معطوف .

فإن قيل : الإنسان ملجأ إلى ألاَّ يقتل نفسه فأي فائدة في النهي عنه ؟

فالجواب من أوجه :

أحدها : أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل " الهِنْدِ " أنهم يقدرون في قتل النفس التَّخلُّص من عالم الفساد ، واللحوق بعالم النور والصلاح ، أو كثير ممن صعب عليه الزمان ، وثقل عليه أمر من الأمور ، فيقتل نفسه ، فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صحّ كونه مكلفاً به .

وثانيها : المراد لا يقتل بعضكم بعضاً ، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتّصل به نَسَباً وديناً كقوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] .

وثالثها : أنه إذا قتل غيره ، فكأنما قتل نفسه ؛ لأنه يقتصُّ منه بإقامة المسبّب مقام السَّبب ، وهو قريب من قولهم : " القَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ " ؛ وقال :

[ الطويل ]

628- سَقَيْنَاهُمُ كَأْساً سَقَوْنَا بِمِثِلْهَا *** وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى المَوْتِ أَصْبَرَا

وقيل : لا تفسكوها بارتكاب أنفسكم ما يوجب سفكها كالارْتِدَاد نحوه وهو قريب مما قبله .

ورابعها : لا تتعرضوا لمُقَاتلة من يقتلكم ، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم .

وخامسها : لا تسفكوا دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا ، فتكونوا مهلكين لأنفسكم .

قوله : { وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم } فيه وجهان .

الأول : لا تفعلون ما تستحقّون بسببه أن تخرجوا من دياركم .

الثاني : المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم ؛ لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة .

" مِن دِيَارِكُمْ " متعلّق ب " تخرجون " ، و " من " لابتداء الغاية ، و " ديار " جمع دار الأصل : دَوَرَ ؛ لأنه من دَارَ يَدُورُ دَوَرَاناً ، فأصل دِيَار : دِوَار ، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، واعتلالها في الواحد .

وهذه قاعدة مطّردة [ في كل جمع على " فِعَالٍ " صحيح اللام قد اعتلت عين مفرده ، أو سكنت حرف علة نحو : ] ديار وثياب ، ولذلك صحّ " رِوَاء " لاعتلال لامه ، و " طِوَال " لتحرك عين مفرده ، وهو " طويل " .

فأما " طيال " في " طوال " فَشَاذّ ، وحكم المصدر حكم هذا نحو : قام قياماً ، وصام صياماً ، ولذلك صح " لِوَاذ " لصحة فعله في قولهم : " لاوذ " .

وأما دَيَّار فهو من لفظة الدار ، وأصله : ديوار ، فاجتمع الياء والواو فأعلاً على القاعدة المعروفة فوزنه : " فَيْعَال " لا " فَعَّال " ، إذ لو كان " فَعَّالاً " لقيل : دَوَّار ك " صَوَّام وقَوَّام " والدَّار : مجتمع القوم من الأَبنية .

وقال الخَلِيلُ : كل موضع حَلَّه الناس ، وإن لم يكن أبنية .

[ وقيل : سميت داراً لدورها على سكانها ، كما سمي الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه ] .

و " النفس " مأخوذ من النّفَاسة ، فنفس الإنسان أشرف ما فيه .

وقوله : " ثم أقررتم " .

قال أبو البقاء : فيه وجهان :

أحدهما : أن " ثُمّ " على بابها في إفادة العطف والتراخي ، والمعطوف عليه محذوف تقديره : فَقَبِلْتُمْ ، ثم أقررتم .

والثاني : أن تكون " ثم " جاءت لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر عنه ، كقوله تعالى : { ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ } [ يونس : 46 ] .

قوله :{ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ }كقوله : { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } [ البقرة : 83 ] وفيها وجوه :

أحدها : أقررتم بالمِيثَاق ، ثم اعترفتم على أنفسكم بلزومه ، وأنتم تشهدون عليها ، كقولك : فلان مقرّ على نفسه بكذا ، شاهد عليها .

وثانيها : اعترفتم بقَبُوله ، وشهد بعضكم على بعض بذلك ؛ لأنه كان شائعاً بينكم مشهوراً .

وثالثها : وأنتم تشهدون اليوم يا مَعْشَرَ اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق .

ورابعها : أن المراد بهذا الإقرار الذي هو الرِّضا بالأمر والصبر عليه ، كما يقال فلان لا يقر على الضَّيم ، فيكون المعنى أنه تعالى أمركم بذلك ، ورضيتم به ، وأقمتم عليه ، وشهدتم على وجوبه وصحته .

فإن قيل : لم قال : { أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } والمعنى واحد ؟

فالجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أقررتم يعني أسْلافكم ، وأنتم تشهدون الآن على إقرارهم .

الثاني : أقررتم في وقت المِيثَاقِ الذي مضى ، وأنتم بعد ذلك تشهدون [ بقلوبكم ] .

الثالث : أنه للتأكيد .