هذا الخطاب كله كالذي قبله : وقوله : { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } كقوله : { لاَ تَعْبُدُونَ إلاَّ اللهَ } في الإعراب سواء .
و " تُسْفِكُونَ " من " أَسْفَك " الرّباعي .
وقرأ طلحة بن مصرف ، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء وهي لغة ، وأبو نهيك " تُسَفِّكُونَ " بضم التاء ، وفتح السين ، وتشديد الفاء .
و " وَلاَ تْخْرِجُونَ " معطوف .
فإن قيل : الإنسان ملجأ إلى ألاَّ يقتل نفسه فأي فائدة في النهي عنه ؟
أحدها : أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل " الهِنْدِ " أنهم يقدرون في قتل النفس التَّخلُّص من عالم الفساد ، واللحوق بعالم النور والصلاح ، أو كثير ممن صعب عليه الزمان ، وثقل عليه أمر من الأمور ، فيقتل نفسه ، فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صحّ كونه مكلفاً به .
وثانيها : المراد لا يقتل بعضكم بعضاً ، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتّصل به نَسَباً وديناً كقوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] .
وثالثها : أنه إذا قتل غيره ، فكأنما قتل نفسه ؛ لأنه يقتصُّ منه بإقامة المسبّب مقام السَّبب ، وهو قريب من قولهم : " القَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ " ؛ وقال :
628- سَقَيْنَاهُمُ كَأْساً سَقَوْنَا بِمِثِلْهَا *** وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى المَوْتِ أَصْبَرَا
وقيل : لا تفسكوها بارتكاب أنفسكم ما يوجب سفكها كالارْتِدَاد نحوه وهو قريب مما قبله .
ورابعها : لا تتعرضوا لمُقَاتلة من يقتلكم ، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم .
وخامسها : لا تسفكوا دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا ، فتكونوا مهلكين لأنفسكم .
قوله : { وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم } فيه وجهان .
الأول : لا تفعلون ما تستحقّون بسببه أن تخرجوا من دياركم .
الثاني : المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم ؛ لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة .
" مِن دِيَارِكُمْ " متعلّق ب " تخرجون " ، و " من " لابتداء الغاية ، و " ديار " جمع دار الأصل : دَوَرَ ؛ لأنه من دَارَ يَدُورُ دَوَرَاناً ، فأصل دِيَار : دِوَار ، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، واعتلالها في الواحد .
وهذه قاعدة مطّردة [ في كل جمع على " فِعَالٍ " صحيح اللام قد اعتلت عين مفرده ، أو سكنت حرف علة نحو : ] ديار وثياب ، ولذلك صحّ " رِوَاء " لاعتلال لامه ، و " طِوَال " لتحرك عين مفرده ، وهو " طويل " .
فأما " طيال " في " طوال " فَشَاذّ ، وحكم المصدر حكم هذا نحو : قام قياماً ، وصام صياماً ، ولذلك صح " لِوَاذ " لصحة فعله في قولهم : " لاوذ " .
وأما دَيَّار فهو من لفظة الدار ، وأصله : ديوار ، فاجتمع الياء والواو فأعلاً على القاعدة المعروفة فوزنه : " فَيْعَال " لا " فَعَّال " ، إذ لو كان " فَعَّالاً " لقيل : دَوَّار ك " صَوَّام وقَوَّام " والدَّار : مجتمع القوم من الأَبنية .
وقال الخَلِيلُ : كل موضع حَلَّه الناس ، وإن لم يكن أبنية .
[ وقيل : سميت داراً لدورها على سكانها ، كما سمي الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه ] .
و " النفس " مأخوذ من النّفَاسة ، فنفس الإنسان أشرف ما فيه .
أحدهما : أن " ثُمّ " على بابها في إفادة العطف والتراخي ، والمعطوف عليه محذوف تقديره : فَقَبِلْتُمْ ، ثم أقررتم .
والثاني : أن تكون " ثم " جاءت لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر عنه ، كقوله تعالى : { ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ } [ يونس : 46 ] .
قوله :{ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ }كقوله : { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } [ البقرة : 83 ] وفيها وجوه :
أحدها : أقررتم بالمِيثَاق ، ثم اعترفتم على أنفسكم بلزومه ، وأنتم تشهدون عليها ، كقولك : فلان مقرّ على نفسه بكذا ، شاهد عليها .
وثانيها : اعترفتم بقَبُوله ، وشهد بعضكم على بعض بذلك ؛ لأنه كان شائعاً بينكم مشهوراً .
وثالثها : وأنتم تشهدون اليوم يا مَعْشَرَ اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق .
ورابعها : أن المراد بهذا الإقرار الذي هو الرِّضا بالأمر والصبر عليه ، كما يقال فلان لا يقر على الضَّيم ، فيكون المعنى أنه تعالى أمركم بذلك ، ورضيتم به ، وأقمتم عليه ، وشهدتم على وجوبه وصحته .
فإن قيل : لم قال : { أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } والمعنى واحد ؟
أحدها : أقررتم يعني أسْلافكم ، وأنتم تشهدون الآن على إقرارهم .
الثاني : أقررتم في وقت المِيثَاقِ الذي مضى ، وأنتم بعد ذلك تشهدون [ بقلوبكم ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.