المسألة الثانية : { الرحمن } مبتدأ خبره الجملة الفعلية التي هي قوله : { علم القرآن } وقيل { الرحمن } [ خبر ] مبتدأ تقديره هو الرحمن ، ثم أتى بجملة بعد جملة فقال : { علم القرآن } والأول أصح ، وعلى القول الضعيف الرحمن آية .
المسألة الثالثة : قوله تعالى : { علم القرآن } لا بد له من مفعول ثان فما ذلك ؟ نقول : الجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) قيل : علم بمعنى جعله علامة أي هو علامة النبوة ومعجزة وهذا يناسب قوله تعالى : { وانشق القمر } على ما بينا أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيئة وهو أنه شق مالا يشقه أحد غيره ، وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة ، وهو أنه نشر من العلوم مالا ينشره غيره ، وهو ما في القرآن ، وعلى هذا الوجه من الجواب ففيه احتمال آخر ، وهو أنه جعله بحيث يعلم فهو كقوله : { ولقد يسرنا القرآن للذكر } والتعليم على هذا الوجه مجاز . يقال : إن أنفق على متعلم وأعطى أجرة على تعليمة علمه ( وثانيهما ) أن المفعول الثاني لا بد منه وهو جبريل وغيره من الملائكة علمهم القرآن ثم أنزله على عبده كما قال تعالى : { نزل به الروح الأمين على قلبك } ويحتمل أن يقال : المفعول الثاني هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وفيه إشارة إلى أن القرآن كلام الله تعالى لا كلام محمد ، وفيه ( وجه ثالث ) وهو أنه تعالى علم القرآن الإنسان ، وهذا أقرب ليكون الإنعام أتم والسورة مفتتحة لبيان الأعم من النعم الشاملة .
المسألة الرابعة : لم ترك المفعول الثاني ؟ نقول : إشارة إلى أن النعمة في تعميم التعليم لا في تعليم شخص دون شخص ، يقال : فلان يطعم الطعام إشارة إلى كرمه ، ولا يبين من يطعمه .
المسألة الخامسة : ما معنى التعليم ؟ نقوله على قولنا له مفعول ثان إفادة العلم به ، فإن قيل : كيف يفهم قوله تعالى : { علم القرآن } مع قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله } ؟ نقول : من لا يقف عند قوله : { إلا الله } ويعطف : { الراسخون } على الله عطف المفرد على المفرد لا يرد عليه هذا ، ومن يقف ويعطف قوله تعالى : { الراسخون في العلم } على قوله : { وما يعلم تأويله } عطف جملة على جملة يقول : إنه تعالى علم القرآن ، لأن من علم كتابا عظيما ووقع على ما فيه ، وفيه مواضع مشكلة فعلم ما في تلك المواضع بقدر الإمكان ، يقال : فلان يعلم الكتاب الفلاني ويتقنه بقدر وسعه ، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين ، وكذلك القول في تعليم القرآن ، أو تقول : ( لا يعلم تأويله إلا الله ) وأما غيره فلا يعلم من تلقاء نفسه ما لم يعلم ، فيكون إشارة إلى أن كتاب الله تعالى ليس كغيره من الكتب التي يستخرج ما فيها بقوة الذكاء والعلوم .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ الرَّحْمَنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ ( 2 ) خَلَقَ الْإِنْسَانَ ( 3 ) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ( 4 ) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( 5 ) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( 6 ) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( 7 ) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ( 8 ) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ( 9 ) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ( 10 ) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ( 11 ) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ( 12 ) فَبِأَيِّ آَلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 13 ) }
الرحمن : هو الله تعالى ، المنعم بجلائل النعم الدنيوية والأخروية ، وهو اسم من أسماء الله الحسنى .
علَّم القرآن : قدم ذلك ، لأن أصل النعم الدينية وأجلّها هو إنعامه بالقرآن ، وتنزيله وتعليمه ، فإنه أساس الدين .
1 ، 2- { الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ } .
اسم الله الرَّحْمَنُ ، معناه أن الرحمة صفة وجودية قديمة ، قائمة بذاته سبحانه وتعالى ، فهو الرحمن ، ورحمته تنتقل إلى عباده فهو رحيم بهم ، وفي سورة الفاتحة : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } . ( الفاتحة : 3 ) . فما أكثر رحمته بعباده ، ومن أجلّ هذه النعم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ، بواسطة جبريل الروح الأمين .
قال تعالى : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } . ( النجم : 5 ) .
وقال سبحانه : { نزل به الروح الأمين*على قلبك لتكون من المنذِرين } . ( الشعراء : 193-194 ) .
ومن أجلِّ النعم إنزال هذا الكتاب على الرسول الأمين محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد علّمه الله إياه ، وتكفَّل بحفظه في قلبه ، وقراءته على لسانه .
قال تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } . ( القيامة : 16-19 ) .
وقد ادَّعت قريش أن النبي يتعلم القرآن من حداد رومي كان يجلس عنده ، فردّ الله عليهم ، وبيَّن أن الله هو الذي علم محمدا هذا الكتاب ، حيث قال سبحانه : { الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ } .
وقال عز شأنه : { وإنّك لتُلقّى القرآن من لدن حكيم عليم } . ( النمل : 6 ) .
وقال عز شأنه : { وما ينطق عن الهوى*إنْ هو إلا وحي يوحى } . ( النجم : 3-4 ) .
جعل الله الثواب العظيم في تلاوة القرآن وحفظه ، وتعليمه وتعلّمه ، وقد اشتمل القرآن الكريم على التشريع والعبادات والمعاملات ، والآداب ، وأخبار السابقين ، وقصص المرسلين ، وأخبار القيامة ، وكل ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم ، ولذلك كان أعظم المنن : عَلَّمَ الْقُرْآَنَ .
الأول : أن الله علم القرآن للبشر وللناس حتى يهتدوا بهدى الله ، ومكّن الإنسان من استيعاب هذا الكتاب ، وتلاوته وحفظه وفهم معانيه .
قال تعالى : { ولقد يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } . ( القمر : 17 ) .
أي سهَّلنا تلاوة القرآن وقراءته وفهمه لمن رغب في ذلك ، فهل من متعظ راغب في هذا الخير ؟
الثاني : أن الله علم القرآن لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم تعلّم منه الصحابة ، وتناقل الناس تعليم القرآن عن الصحابة .
{ الرحمان علم القرآن } بدأ سبحانه في معرض الامتنان على عباده بجلائل النعم – بأعظمها شأنا ، وأرفعها مكانا ؛ وهو تعليم رسوله صلى الله عليه وسلم وأمته القرآن . وهو هدى وشفاء ، وحمة وعصمة ، وأمان ونور للناس في دينهم ودنياهم . وهو أعظم وحي الله إلى أنبيائه ، وأشرفه منزلة عند أوليائه ، وأكثره ذكرا ، وأحسنه في أبواب الدين أثرا . والرحمان : من أسمائه تعالى ؛ وتخصيصه بالذكر هنا للتنبيه إلى أن تعليم القرآن من آثار رحمته الواسعة .