مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرٞ فِيٓ ءَايَاتِنَاۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ} (21)

قوله تعالى { وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون }

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن القوم لما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم آية أخرى سوى القرآن ، وأجاب الجواب الذي قررناه وهو قوله : { إنما الغيب لله } ذكر جوابا آخر وهو المذكور في هذه الآية ، وتقريره من وجهين :

الوجه الأول : أنه تعالى بين في هذه الآية أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد وعدم الإنصاف ، وإذا كانوا كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوه من إنزال معجزات أخرى ، فإنهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم وجهلهم ، فنفتقر ههنا إلى بيان أمرين : إلى بيان أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد ، ثم إلى بيان أنه متى كان الأمر كذلك لم يكن في إظهار سائر المعجزات فائدة .

أما المقام الأول : فتقريره أنه روي أن الله تعالى سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم ، وأنزل الأمطار النافعة على أراضيهم ، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام وإلى الأنواء ، وعلى التقديرين فهو مقابلة للنعمة بالكفران . فقوله : { وإذا أذقنا الناس رحمة } المراد منه تلك الأمطار النافعة . وقوله : { من بعد ضراء مستهم } المراد منه ذلك القحط الشديد . وقوله : { إذا لهم مكر في آياتنا } المراد منه إضافتهم تلك المنافع الجليلة إلى الأنواء والكواكب أو إلى الأصنام .

واعلم أنه تعالى ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة ، وهو قوله تعالى : { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } إلا أنه تعالى زاد في هذه الآية التي نحن في تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية ، وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة ، ويطلبون الغوائل ، وفي الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة ، فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر وطلب الغوائل .

وأما المقام الثاني : وهو بيان أنه متى كان الأمر كذلك فلا فائدة في إظهار سائر الآيات ، لأنه تعالى لو أظهر لهم جميع ما طلبوه من المعجزات الظاهرة فإنهم لا يقبلونها ، لأنه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التشدد في طلب الدين ، وإنما غرضهم الدفع والمنع والمبالغة في صون مناصبهم الدنيوية ، والامتناع من المتابعة للغير ، والدليل عليه أنه تعالى لما شدد الأمر عليهم وسلط البلاء عليهم ، ثم أزالها عنهم وأبدل تلك البليات بالخيرات ، فهم مع ذلك استمروا على التكذيب والجحود ، فدل ذلك على أنه تعالى لو أنزل عليهم الآيات التي طلبوها لم يلتفتوا إليها ، فظهر بما ذكرنا أن هذا الكلام جواب قاطع عن السؤال المتقدم .

الوجه الثاني : في تقرير هذا الجواب : أن أهل مكة قد حصل لهم أسباب الرفاهية وطيب العيش ، ومن كان كذلك تمرد وتكبر كما قال تعالى : { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } وقرر تعالى هذا المعنى بالمثال المذكور ، فإقدامهم على طلب الآيات الزائدة والاقتراحات الفاسدة ، إنما كان لأجل ما هم فيه من النعم الكثيرة والخيرات المتوالية ، وقوله : { قل الله أسرع مكرا } كالتنبيه على أنه تعالى يزيل عنهم تلك النعم ، ويجعلهم منقادين للرسول مطيعين له ، تاركين لهذه الاعتراضات الفاسدة . والله أعلم .

المسألة الثانية : قوله تعالى : { وإذا أذقنا الناس رحمة } كلام ورد على سبيل المبالغة ، والمراد منه إيصال الرحمة إليهم .

واعلم أن رحمة الله تعالى لا تذاق بالفم ، وإنما تذاق بالعقل ، وذلك يدل على أن القول بوجود السعادات الروحانية حق .

المسألة الثالثة : قال الزجاج { إذا } في قوله : { وإذا أذقنا الناس رحمة } للشرط و { إذا } في قوله { إذا لهم مكر } جواب الشرط وهو كقوله : { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون } والمعنى : إذا أذقنا الناس رحمة مكروا وإن تصبهم سيئة قنطوا . واعلم أن { إذا } في قوله : { إذا لهم مكر } تفيد المفاجأة ، معناه أنهم في الحال أقدموا على المكر وسارعوا إليه .

المسألة الرابعة : سمي تكذيبهم بآيات الله مكرا ، لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بطريق الحيلة ، وهؤلاء يحتالون لدفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة . قال مقاتل : المراد من هذا المكر هو أن هؤلاء لا يقولون هذا رزق الله ، بل يقولون سقينا بنوء كذا .

أما قوله تعالى : { قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } فالمعنى أن هؤلاء الكفار لما قابلوا نعمة الله بالمكر ، فالله سبحانه وتعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك ، وهو من وجهين : الأول : ما أعد لهم يوم القيامة من العذاب الشديد ، وفي الدنيا من الفضيحة والخزي والنكال . والثاني : أن رسل الله يكتبون مكرهم ويحفظونه ، وتعرض عليهم ما في بواطنهم الخبيثة يوم القيامة ، ويكون ذلك سببا للفضيحة التامة والخزي والنكال نعوذ بالله تعالى منه .