مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَةٞۖ وَلَا يَرۡهَقُ وُجُوهَهُمۡ قَتَرٞ وَلَا ذِلَّةٌۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (26)

قوله تعالى { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون }

اعلم أنه تعالى لما دعا عباده إلى دار السلام ، ذكر السعادات التي تحصل لهم فيها فقال : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } فيحتاج إلى تفسير هذه الألفاظ الثلاثة .

أما اللفظ الأول : وهو قوله : { للذين أحسنوا } فقال ابن عباس : معناه : للذين ذكروا كلمة لا إله إلا الله . وقال الأصم : معناه : للذين أحسنوا في كل ما تعبدوا به ، ومعناه : أنهم أتوا بالمأمور به كما ينبغي ، واجتنبوا المنهيات من الوجه الذي صارت منهيا عنها .

والقول الثاني : أقرب إلى الصواب لأن الدرجات العالية لا تحصل إلا لأهل الطاعات .

وأما اللفظ الثاني : وهو { الحسنى } فقال ابن الأنباري : الحسنى في اللغة تأنيث الأحسن ، والعرب توقع هذه اللفظة على الحالة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها ، ولذلك لم تؤكد ، ولم تنعت بشيء ، وقال صاحب «الكشاف » : المراد : المثوبة الحسنى . ونظير هذه الآية قوله : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان }

وأما اللفظ الثالث : وهو الزيادة . فنقول : هذه الكلمة مهمة ، ولأجل هذا اختلف الناس في تفسيرها ، وحاصل كلامهم يرجع إلى قولين :

القول الأول : أن المراد من منها رؤية الله سبحانه وتعالى . قالوا : والدليل عليه النقل والعقل .

أما النقل : فالحديث الصحيح الوارد فيه ، وهو أن الحسنى هي الجنة ، والزيادة هي النظر إلى الله سبحانه وتعالى .

وأما العقل : فهو أن الحسنى لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف ، فانصرف إلى المعهود السابق ، وهو دار السلام . والمعروف من المسلمين والمتقرر بين أهل الإسلام من هذه اللفظة هو الجنة ، وما فيها من المنافع والتعظيم . وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكون المراد من الزيادة أمرا مغايرا لكل ما في الجنة من المنافع والتعظيم ، وإلا لزم التكرار . وكل من قال بذلك قال : إنما هي رؤية الله تعالى . فدل ذلك على أن المراد من هذه الزيادة : الرؤية . ومما يؤكد هذا وجهان : الأول : أنه تعالى قال : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } فأثبت لأهل الجنة أمرين : أحدهما : نضرة الوجوه والثاني : النظر إلى الله تعالى ، وآيات القرآن يفسر بعضها بعضا فوجب حمل الحسنى ههنا على نضرة الوجوه ، وحمل الزيادة على رؤية الله تعالى . الثاني : أنه تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا } أثبت له النعيم ، ورؤية الملك الكبير ، فوجب ههنا حمل الحسنى والزيادة على هذين الأمرين .

القول الثاني : أنه لا يجوز حمل هذه الزيادة على الرؤية . قالت المعتزلة ويدل على ذلك وجوه : الأول : أن الدلائل العقلية دلت على أن رؤية الله تعالى ممتنعة . والثاني : أن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه ، ورؤية الله تعالى ليست من جنس نعيم الجنة . الثالث : أن الخبر يوجب التشبيه ، لأن النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي . وذلك يقتضي كون المرئي في الجهة ، لأن الوجه اسم للعضو المخصوص ، وذلك أيضا يوجب التشبيه . فثبت أن هذا اللفظ لا يمكن حمله على الرؤية ، فوجب حمله على شيء آخر ، وعند هذا قال الجبائي : الحسنى عبارة عن الثواب المستحق ، والزيادة هي ما يزيده الله تعالى على هذا الثواب من التفضل . قال : والذي يدل على صحته ، القرآن وأقوال المفسرين .

أما القرآن : فقوله تعالى : { ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله }

وأما أقوال المفسرين : فنقل عن علي رضي الله عنه أنه قال : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة . وعن ابن عباس : أن الحسنى هي الحسنة ، والزيادة عشر أمثالها وعن الحسن : عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وعن مجاهد : الزيادة مغفرة الله ورضوانه . وعن يزيد بن سمرة : الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم . فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم . أجاب أصحابنا عن هذه الوجوه فقالوا : أما قولكم إن الدلائل العقلية دلت على امتناع رؤية الله تعالى فهذا ممنوع ، لأنا بينا في كتب الأصول أن تلك الدلائل في غاية الضعف ونهاية السخافة ، وإذا لم يوجد في العقل ما يمنع من رؤية الله تعالى وجاءت الأخبار الصحيحة بإثبات الرؤية ، وجب إجراؤها على ظواهرها . أما قوله الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه . فنقول : المزيد عليه ، إذا كان مقدرا بمقدار معين ، وجب أن تكون الزيادة عليه مخالفة له .

مثال الأول : قول الرجل لغيره : أعطيتك عشرة أمداد من الحنطة وزيادة ، فههنا يجب أن تكون تلك الزيادة من الحنطة .

ومثال الثاني : قوله أعطيتك الحنطة وزيادة ، فههنا يجب أن تكون تلك الزيادة غير الحنطة ، والمذكور في هذه الآية لفظ { الحسنى } وهي الجنة ، وهي مطلقة غير مقدرة بقدر معين ، فوجب أن تكون تلك الزيادة عليها شيئا مغايرا لكل ما في الجنة . وأما قوله : الخبر المذكور في هذا الباب ، اشتمل على لفظ النظر ، وعلى إثبات الوجه لله تعالى ، وكلاهما يوجبان التشبيه . فنقول : هذا الخبر أفاد إثبات الرؤية ، وأفاد إثبات الجسمية . ثم قام الدليل على أنه ليس بجسم ، ولم يقم الدليل على امتناع رؤيته ، فوجب ترك العمل بما قام الدليل على فساده فقط ، وأيضا فقد بينا أن لفظ هذه الآية يدل على أن الزيادة هي الرؤية من غير حاجة تنافي تقرير ذلك الخبر ، والله أعلم .

واعلم أنه تعالى لما شرح ما يحصل لأهل الجنة من السعادات ، شرح بعد ذلك الآفات التي صانهم الله بفضله عنها ، فقال : { ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة } والمعنى : لا يغشاها قتر ، وهي غبرة فيها سواد { ولا ذلة } ولا أثر هوان ولا كسوف .

فالصفة الأولى : هي قوله تعالى : { وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة }

والصفة الثانية : هي قوله تعالى : { وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة } والغرض من نفي هاتين الصفتين ، نفي أسباب الخوف والحزن والذل عنهم ، ليعلم أن نعيمهم الذي ذكره الله تعالى خالص غير مشوب بالمكروهات ، وإنه لا يجوز عليهم ما إذا حصل غير صفحة الوجه ، ويزيل ما فيها من النضارة والطلاقة ، ثم بين أنهم خالدون في الجنة لا يخافون الانقطاع .

واعلم أن علماء الأصول قالوا : الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فقوله : { والله يدعوا إلى دار السلام } يدل على غاية التعظيم . وقوله : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } يدل على حصول المنفعة وقوله : { ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة } يدل على كونها خالصة وقوله : { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع والله أعلم .