مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةِۭ بِمِثۡلِهَا وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ مَّا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِنۡ عَاصِمٖۖ كَأَنَّمَآ أُغۡشِيَتۡ وُجُوهُهُمۡ قِطَعٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مُظۡلِمًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (27)

قوله تعالى { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه كما شرح حال المسلمين في الآية المتقدمة ، شرح حال من أقدم على السيئات في هذه الآية ، وذكر تعالى من أحوالهم أمورا أربعة أولها : قوله : { جزاء سيئة بمثلها } والمقصود من هذا القيد التنبيه على الفرق بين الحسنات وبين السيئات ، لأنه تعالى ذكر في أعمال البر أنه يوصل إلى المشتغلين بها الثواب مع الزيادة وأما في عمل السيئات ، فإنه تعالى ذكر أنه لا يجازي إلا بالمثل ، والفرق هو أن الزيادة على الثواب تكون تفضلا وذلك حسن ، ويكون فيه تأكيد للترغيب في الطاعة ، وأما الزيادة على قدر الاستحقاق في عمل السيئات ، فهو ظلم ، ولو فعله لبطل الوعد والوعيد والترهيب والتحذير ، لأن الثقة بذلك إنما تحصل إذا ثبتت حكمته ، ولو فعل الظلم لبطلت حكمته . تعالى الله عن ذلك ، هكذا قرره القاضي تفريعا على مذهبه . وثانيها : قوله : { وترهقهم ذلة } وذلك كناية عن الهوان والتحقير ، واعلم أن الكمال محبوب لذاته ، والنقصان مكروه لذاته ، فالإنسان الناقص إذا مات بقيت روحه ناقصة خالية عن الكمالات ، فيكون شعوره بكونه ناقصا ، سببا لحصول الذلة والمهانة والخزي والنكال . وثالثها : قوله : { ما لهم من الله من عاصم } واعلم أنه لا عاصم من الله لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فإن قضاءه محيط بجميع الكائنات ، وقدره نافذ في كل المحدثات إلا أن الغالب على الطباع العاصية ، أنهم في الحياة العاجلة مشتغلون بأعمالهم ومراداتهم . أما بعد الموت فكل أحد يقر بأنه ليس له من الله من عاصم . ورابعها : قوله : { كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما } والمراد من هذا الكلام إثبات ما نفاه عن السعداء حيث قال : { ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة }

واعلم أن حكماء الإسلام قالوا : المراد من هذا السواد المذكور ههنا سواد الجهل وظلمة الضلالة ، فإن العلم طبعه طبع النور ، والجهل طبعه طبع الظلمة ، فقوله : { وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة } المراد منه نور العلم ، وروحه وبشره وبشارته ، وقوله : { ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة } المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة .

المسألة الثانية : قوله : { والذين كسبوا السيئات } فيه وجهان : أحدهما : أن يكون معطوفا على قوله : { للذين أحسنوا } كأنه قيل : للذين أحسنوا الحسنى وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها والثاني : أن يكون التقدير وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها . على معنى أن جزاءهم أن يجازي سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها ، وهذا يدل على أن حكم الله في حق المحسنين ليس إلا بالفضل ، وفي حق المسيئين ليس إلا بالعدل .

المسألة الثالثة : قال بعضهم : المراد بقوله : { والذين كسبوا السيئات } الكفار واحتجوا عليه بأن سواد الوجه من علامات الكفر ، بدليل قوله تعالى :

{ فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } وكذلك قوله : { وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة } ولأنه تعالى قال بعد هذه الآية { ويوم نحشرهم جميعا } والضمير في قوله : { هم } عائد إلى هؤلاء ، ثم إنه تعالى وصفهم بالشرك ، وذلك يدل على أن هؤلاء هم الكفار ، ولأن العلم نور وسلطان العلوم والمعارف هو معرفة الله تعالى ، فكل قلب حصل فيه معرفة الله تعالى لم يحصل فيه الظلمة أصلا ، وكان الشبلي رحمة الله تعالى عليه يتمثل بهذا ويقول :

كل بيت أنت ساكنه***غير محتاج إلى السرج

وجهك المأمول حجتنا ***يوم يأتي الناس بالحجج

وقال القاضي : إن قوله : { والذين كسبوا السيئات } عام يتناول الكافر والفاسق . إلا أنا نقول : الصيغة وإن كانت عامة إلا أن الدلائل التي ذكرناها تخصصه :

المسألة الرابعة : قال الفراء : في قوله : { جزاء سيئة بمثلها } وجهان : الأول : أن يكون التقدير : فلهم جزاء السيئة بمثلها ، كما قال : { ففدية من صيام } أي فعليه . والثاني : أن يعلق الجزاء بالباء في قوله : { بمثلها } قال ابن الأنباري : وعلى هذا التقدير الثاني فلا بد من عائد الموصول . والتقدير : فجزاء سيئة منهم بمثلها .

أما قوله : { وترهقهم ذلة } فهو معطوف على يجازي ، لأن قوله : { جزاء سيئة بمثلها } تقديره : يجازي سيئة بمثلها ، وقرىء { ولا ذلة } بالياء .

أما قوله تعالى : { كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما } ففيه مسائل ؛

المسألة الأولى : { أغشيت } أي ألبست { وجوههم قطعا } قرأ ابن كثير والكسائي { قطعا } بسكون الطاء ، وقرأ الباقون بفتح الطاء ، والقطع بسكون القطعة . وهي البعض ، ومنه قوله تعالى { فأسر بأهلك بقطع من الليل } أي قطعة . وأما قطع بفتح الطاء ، فهو جمع قطعة ، ومعنى الآية : وصف وجوههم بالسواد ، حتى كأنها ألبست سوادا من الليل ، كقوله تعالى : { ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } وكقوله : { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } وكقوله : { يعرف المجرمون بسيماهم } وتلك العلامة هي سواد الوجه وزرقة العين .

المسألة الثانية : قوله : { مظلما } قال الفراء والزجاج : هو نعت لقوله : { قطعا } وقال أبو علي الفارسي : ويجوز أن يجعل حالا كأنه قيل : أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته .