مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (46)

ثم إنه تعالى قال لنوح عليه السلام : { فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : احتج بهذه الآية من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام من وجوه :

الوجه الأول : أن قراءة عمل بالرفع والتنوين قراءة متواترة فهي محكمة ، وهذا يقتضي عود الضمير في قوله : { إنه عمل غير صالح } إما إلى ابن نوح وإما إلى ذلك السؤال ، فالقول بأنه عائد إلى ابن نوح لا يتم إلا بإضمار وهو خلاف الظاهر . ولا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة ولا ضرورة ههنا ، لأنا إذا حكمنا بعود الضمير إلى السؤال المتقدم فقد استغنينا عن هذا الضمير ، فثبت أن هذا الضمير عائد إلى هذا السؤال ، فكان التقدير أن هذا السؤال عمل غير صالح ، أي قولك : إن ابني من أهلي لطلب نجاته عمل غير صالح ، وذلك يدل على أن هذا السؤال كان ذنبا ومعصية .

الوجه الثاني : أن قوله : { فلا تسألني } نهي له عن السؤال ، والمذكور السابق هو قوله { إن ابني من أهلي } فدل هذا على أنه تعالى نهاه عن ذلك السؤال فكان ذلك السؤال ذنبا ومعصية .

الوجه الثالث : أن قوله : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } يدل على أن ذلك السؤال كان قد صدر لا عن العلم ، والقول بغير العلم ذنب لقوله تعالى : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } .

الوجه الرابع : أن قوله تعالى : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } يدل على أن ذلك السؤال كان محض الجهل . وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر ، وأيضا جعل الجهل كناية عن الذنب مشهور في القرآن . قال تعالى : { يعملون السوء بجهالة } وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } .

الوجه الخامس : أن نوحا عليه السلام اعترف بإقدامه على الذنب والمعصية في هذا المقام فإنه قال : { إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } واعترافه بذلك يدل على أنه كان مذنبا .

الوجه السادس : في التمسك بهذه الآية أن هذه الآية تدل على أن نوحا نادى ربه لطلب تخليص ولده من الغرق ، والآية المتقدمة وهي قوله : { ونادى نوح ابنه } وقال : { يا بني اركب معنا } تدل على أنه عليه السلام طلب من ابنه الموافقة . فنقول : إما أن يقال إن طلب هذا المعنى من الله كان سابقا على طلبه من الولد أو كان بالعكس ، والأول باطل . لأن بتقدير أن يكون طلب هذا المعنى من الله تعالى سابقا على طلبه من الابن لكان قد سمع من الله أنه تعالى لا يخلص ذلك الابن من الغرق ، وأنه تعالى نهاه عن ذلك الطلب ، وبعد هذا كيف قال له : { يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين } وأما إن قلنا : إن هذا الطلب من الابن كان متقدما فكان قد سمع من الابن قوله : { ساوى إلى جبل يعصمني من الماء } وظهر بذلك كفره ، فكيف طلب من الله تخليصه ، وأيضا أنه تعالى أخبر أن نوحا لما طلب ذلك منه وامتنع هو صار من المغرقين فكيف يطلب من الله تخليصه من الغرق بعد أن صار من المغرقين ، فهذه الآية من هذه الوجوه الستة تدل على صدور المعصية من نوح عليه السلام .

واعلم أنه لما دلت الدلائل الكثيرة على وجوب تنزيه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي ، وجب حمل هذه الوجوه المذكورة على ترك الأفضل والأكمل ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فلهذا السبب حصل هذا العتاب والأمر بالاستغفار ، ولا يدل على سابقة الذنب كما قال :

{ إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره } ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ليست بذنب يوجب الاستغفار وقال تعالى : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وليس جميعهم مذنبين ، فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك لأفضل .

المسألة الثانية : قرأ نافع برواية ورش وإسمعيل بتشديد النون وإثبات الياء { تسألني } وقرأ ابن عامر ونافع برواية قالون بتشديد النون وكسرها من غير إثبات الياء ، وقرأ أبو عمرو بتخفيف النون وكسرها وحذف الياء { تسألن } أما التشديد فللتأكيد وأما إثبات الياء فعلى الأصل ، وأما ترك التشديد والحذف فللتخفيف من غير إخلال .