ثم إنه تعالى قال لنوح عليه السلام : { فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : احتج بهذه الآية من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام من وجوه :
الوجه الأول : أن قراءة عمل بالرفع والتنوين قراءة متواترة فهي محكمة ، وهذا يقتضي عود الضمير في قوله : { إنه عمل غير صالح } إما إلى ابن نوح وإما إلى ذلك السؤال ، فالقول بأنه عائد إلى ابن نوح لا يتم إلا بإضمار وهو خلاف الظاهر . ولا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة ولا ضرورة ههنا ، لأنا إذا حكمنا بعود الضمير إلى السؤال المتقدم فقد استغنينا عن هذا الضمير ، فثبت أن هذا الضمير عائد إلى هذا السؤال ، فكان التقدير أن هذا السؤال عمل غير صالح ، أي قولك : إن ابني من أهلي لطلب نجاته عمل غير صالح ، وذلك يدل على أن هذا السؤال كان ذنبا ومعصية .
الوجه الثاني : أن قوله : { فلا تسألني } نهي له عن السؤال ، والمذكور السابق هو قوله { إن ابني من أهلي } فدل هذا على أنه تعالى نهاه عن ذلك السؤال فكان ذلك السؤال ذنبا ومعصية .
الوجه الثالث : أن قوله : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } يدل على أن ذلك السؤال كان قد صدر لا عن العلم ، والقول بغير العلم ذنب لقوله تعالى : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } .
الوجه الرابع : أن قوله تعالى : { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } يدل على أن ذلك السؤال كان محض الجهل . وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر ، وأيضا جعل الجهل كناية عن الذنب مشهور في القرآن . قال تعالى : { يعملون السوء بجهالة } وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } .
الوجه الخامس : أن نوحا عليه السلام اعترف بإقدامه على الذنب والمعصية في هذا المقام فإنه قال : { إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } واعترافه بذلك يدل على أنه كان مذنبا .
الوجه السادس : في التمسك بهذه الآية أن هذه الآية تدل على أن نوحا نادى ربه لطلب تخليص ولده من الغرق ، والآية المتقدمة وهي قوله : { ونادى نوح ابنه } وقال : { يا بني اركب معنا } تدل على أنه عليه السلام طلب من ابنه الموافقة . فنقول : إما أن يقال إن طلب هذا المعنى من الله كان سابقا على طلبه من الولد أو كان بالعكس ، والأول باطل . لأن بتقدير أن يكون طلب هذا المعنى من الله تعالى سابقا على طلبه من الابن لكان قد سمع من الله أنه تعالى لا يخلص ذلك الابن من الغرق ، وأنه تعالى نهاه عن ذلك الطلب ، وبعد هذا كيف قال له : { يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين } وأما إن قلنا : إن هذا الطلب من الابن كان متقدما فكان قد سمع من الابن قوله : { ساوى إلى جبل يعصمني من الماء } وظهر بذلك كفره ، فكيف طلب من الله تخليصه ، وأيضا أنه تعالى أخبر أن نوحا لما طلب ذلك منه وامتنع هو صار من المغرقين فكيف يطلب من الله تخليصه من الغرق بعد أن صار من المغرقين ، فهذه الآية من هذه الوجوه الستة تدل على صدور المعصية من نوح عليه السلام .
واعلم أنه لما دلت الدلائل الكثيرة على وجوب تنزيه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي ، وجب حمل هذه الوجوه المذكورة على ترك الأفضل والأكمل ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فلهذا السبب حصل هذا العتاب والأمر بالاستغفار ، ولا يدل على سابقة الذنب كما قال :
{ إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره } ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ليست بذنب يوجب الاستغفار وقال تعالى : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وليس جميعهم مذنبين ، فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك لأفضل .
المسألة الثانية : قرأ نافع برواية ورش وإسمعيل بتشديد النون وإثبات الياء { تسألني } وقرأ ابن عامر ونافع برواية قالون بتشديد النون وكسرها من غير إثبات الياء ، وقرأ أبو عمرو بتخفيف النون وكسرها وحذف الياء { تسألن } أما التشديد فللتأكيد وأما إثبات الياء فعلى الأصل ، وأما ترك التشديد والحذف فللتخفيف من غير إخلال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.