مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ رَبِّ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِكَ أَنۡ أَسۡـَٔلَكَ مَا لَيۡسَ لِي بِهِۦ عِلۡمٞۖ وَإِلَّا تَغۡفِرۡ لِي وَتَرۡحَمۡنِيٓ أَكُن مِّنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (47)

واعلم أنه تعالى لما نهاه عن ذلك السؤال حكى عنه أنه قال : { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } والمعنى أنه تعالى لما قال له : { فلا تسألني ما ليس لك به علم } فقال عند ذلك قبلت يا رب هذا التكليف ، ولا أعود إليه إلا أني لا أقدر على الاحتراز منه إلا بإعانتك وهدايتك ، فلهذا بدأ أولا بقوله : { إني أعوذ بك } .

واعلم أن قوله : { إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } إخبار عما في المستقبل ، أي لا أعود إلى هذا العمل ، ثم اشتغل بالاعتذار عما مضى ، فقال : { وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } وحقيقة التوبة تقتضي أمرين : أحدهما : في المستقبل ، وهو العزم على الترك وإليه الإشارة بقوله : { إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } والثاني : في الماضي وهو الندم على ما مضى وإليه الإشارة بقوله : { وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } ونختم هذا الكلام بالبحث عن الزلة التي صدرت عن نوح عليه السلام في هذا المقام . فنقول : إن أمة نوح عليه السلام كانوا على ثلاثة أقسام كافر يظهر كفره ومؤمن يعلم إيمانه وجمع من المنافقين ، وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق ، وكان ذلك معلوما ، وأما أهل النفاق فبقي حكمهم مخفيا . وكان ابن نوح منهم وكان يجوز فيه كونه مؤمنا ، وكانت الشفقة المفرطة التي تكون من الأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافرا ، بل على الوجوه الصحيحة ، فلما رآه بمعزل عن القوم طلب منه أن يدخل السفينة فقال : { ساوى إلى جبل يعصمني من الماء } وذلك لا يدل على كفره لجواز أن يكون قد ظن أن الصعود على الجبل يجري مجرى الركوب في السفينة في أنه يصونه عن الغرق ، وقول نوح : { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } لا يدل إلا على أنه عليه السلام كان يقرر عند ابنه أنه لا ينفعه إلا الإيمان والعمل الصالح ، وهذا أيضا لا يدل على أنه علم من ابنه أنه كان كافرا فعند هذه الحالة كان قد بقي في قلبه ظن أن ذلك الابن مؤمن ، فطلب من الله تعالى تخليصه بطريق من الطرق . إما بأن يمكنه من الدخول في السفينة ، وإما أن يحفظه على قلة جبل ، فعند ذلك أخبره الله تعالى بأنه منافق وأنه ليس من أهل دينه ، فالزلة الصادرة عن نوح عليه السلام هو أنه لم يستقص في تعريف ما يدل على نفاقه وكفره ، بل اجتهد في ذلك وكان يظن أنه مؤمن ، مع أنه أخطأ في ذلك الاجتهاد ، لأنه كان كافرا فلم يصدر عنه إلا الخطأ في هذا الاجتهاد ، كما قررنا ذلك في أن آدم عليه السلام لم تصدر عنه تلك الزلة إلا لأنه أخطأ في هذا الاجتهاد ، فثبت بما ذكرنا أن الصادر عن نوح عليه السلام ما كان من باب الكبائر وإنما هو من باب الخطأ في الاجتهاد ، والله أعلم .