مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ} (67)

ثم إنه تعالى بين ذلك الأمر فقال : { وأخذ الذين ظلموا } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : إنما قال : { أخذ } ولم يقل أخذت لأن الصيحة محمولة على الصياح ، وأيضا فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل ، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث ، وقد سبق لها نظائر .

المسألة الثانية : ذكروا في الصيحة وجهين . قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد الصاعقة الثاني : الصيحة صيحة عظيمة هائلة سمعوها فماتوا أجمع منها فأصبحوا وهم موتى جاثمين في دورهم ومساكنهم ، وجثومهم سقوطهم على وجوههم ، يقال إنه تعالى أمر جبريل عليه السلام أن يصيح بهم تلك الصيحة التي ماتوا بها ، ويجوز أن يكون الله تعالى خلقها ، والصياح لا يكون إلا الصوت الحادث في حلق وفم وكذلك الصراخ ، فإن كان من فعل الله تعالى فقد خلقه في حلق حيوان وإن كان فعل جبريل عليه السلام فقد حصل في فمه وحلقه ، والدليل عليه أن صوت الرعد أعظم من كل صيحة ولا يسمى بذلك ولا بأنه صراخ .

فإن قيل : فما السبب في كون الصيحة موجبة للموت ؟

قلنا : فيه وجوه : أحدها : أن الصيحة العظيمة إنما تحدث عند سبب قوي يوجب تموج الهواء وذلك التموج الشديد ربما يتعدى إلى صماخ الإنسان فيمزق غشاء الدماغ فيورث الموت . والثاني : أنها شيء مهيب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النفسانية إذا قويت أوجبت الموت الثالث : أن الصيحة العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برق شديد محرق ، وذلك هو الصاعقة التي ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما .

ثم قال تعالى : { فأصبحوا في ديارهم جاثمين } والجثوم هو السكون يقال للطير إذا باتت في أوكارها أنها جثمت ، ثم إن العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموت فوصف الله تعالى هؤلاء المهلكين بأنهم سكنوا عند الهلاك ، حتى كأنهم ما كانوا أحياء