مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحۡمَتِي وَأُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (23)

ثم قال تعالى : { والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم }

لما بين الأصلين التوحيد والإعادة وقررهما بالبرهان وهدد من خالفه على سبيل التفصيل فقال : { والذين كفروا بآيات الله ولقائه } إشارة إلى الكفار بالله ، فإن لله في كل شيء آية دالة على وحدانيته ، فإذا أشرك كفر بآيات الله وإشارة إلى المنكر للحشر فإن من أنكره كفر بلقاء الله فقال : { أولئك يئسوا من رحمتى } لما أشركوا أخرجوا أنفسهم عن محل الرحمة لأن من يكون له جهة واحدة تدفع حاجته لا غير يرحم ، وإذا كان له جهات متعددة لا يبقى محلا للرحمة ، فإذا جعلوا لهم آلهة لم يعترفوا بالحاجة إلى طريق متعين فييأسوا من رحمة الله ، ولما أنكروا الحشر وقالوا لا عذاب فناسب تعذيبهم تحقيقا للأمر عليهم ، وهذا كما أن الملك إذا قال أعذب من يخالفني فأنكره بعيد عنه وقال هو لا يصل إلي ، فإذا أحضر بين يديه يحسن منه أن يعذبه ويقول هل قدرت وهل عذبت أم لا ، فإذن تبين أن عدم الرحمة يناسب الإشراك ، والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر . ثم إن في الآية فوائد إحداها : قوله : { أولئك يئسوا } حتى يكون منبئا عن حصر الناس فيهم وقال أيضا { أولئك لهم عذاب أليم } لذلك ، ولو قال : أولئك الذين كفروا بآيات الله ولقائه يئسوا من رحمتي ولهم عذاب أليم ، ما كان يحصل هذه الفائدة فإن قال قائل لو اكتفي بقوله { أولئك } مرة واحدة كان يكفي في إفادة ما ذكر ، ثم قلنا لا وذلك لأنه لو قال أولئك يئسوا ولهم عذاب ، كان يذهب وهم أحد إلى أن هذا المجموع منحصر فيهم ، فلا يوجد المجموع إلا فيهم ولكن واحدا منهما وحده يمكن أن يوجد في غيرهم ، فإذا قال أولئك يئسوا وأولئك لهم عذاب أفاد أن كل واحد لا يوجد إلا فيهم الثانية : عند ذكر الرحمة أضافها إلى نفسه فقال رحمتي وعند العذاب لم يضفه لسبق رحمته وإعلاما لعباده بعمومها لهم ولزومها له الثالثة : أضاف اليأس إليهم بقوله : { أولئك يئسوا } فحرمها عليهم ولو طمعوا لأباحها لهم ، فلو قال قائل ما ذكرت من مقابلة الأمرين وهما اليأس والعذاب بأمرين وهما الكفر بالآيات والكفر باللقاء يقتضي أن لا يكون العذاب الأليم لمن كفر بالله واعترف بالحشر ، أو لا يكون اليأس لمن كفر بالحشر وآمن بالله فنقول : معنى الآية أنهم يئسوا ولهم عذاب أليم زائد بسبب كفرهم بالحشر ، ولا شك أن التعذيب بسبب الكفر بالحشر لا يكون إلا للكافر بالحشر ، وأما الآخر فالكافر بالحشر لا يكون مؤمنا بالله لأن الإيمان به لا يصح إلا إذا صدقه فيما قاله والحشر من جملة ذلك .