مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُواْ ٱقۡتُلُوهُ أَوۡ حَرِّقُوهُ فَأَنجَىٰهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (24)

ثم قال : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون }

لما أتى إبراهيم عليه السلام ببيان الأصول الثلاثة وأقام البرهان عليه ، بقي الأمر من جانبهم إما الإجابة أو الإتيان بما يصلح أن يكون جوابه فلم يأتوا إلا بقولهم { اقتلوه أو حرقوه } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : كيف سمى قولهم { اقتلوه } جوابا مع أنه ليس بجواب ؟ فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أنه خرج منهم مخرج كلام المتكبر كما يقول الملك لرسول خصمه جوابكم السيف ، مع أن السيف ليس بجواب ، وإنما معناه لا أقابله بالجواب ، وإنما أقابله بالسيف فكذلك قالوا لا تجيبوا عن براهينه واقتلوه أو حرقوه الثاني هو أن الله أراد بيان ضلالهم وهو أنهم ذكروا في معرض الجواب هذا مع أنه ليس بجواب ، فتبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلا وذلك لأن من لا يجيب غيره ويسكت ، لا يعلم أنه لا يقدر على الجواب لجواز أن يكون سكوته لعدم الالتفات ، أما إذا أجاب بجواب فاسد ، علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه .

المسألة الثانية : القائلون الذين قالوا اقتلوه هم قومه والمأمورون بقولهم اقتلوه أيضا هم ، فيكون الآمر نفس المأمور ؟ فنقول الجواب عنه : من وجهين أحدهما : أن كل واحد منهم قال لمن عداه اقتلوه ، فحصل الأمر من كل واحد وصار المأمور كل واحد ولا اتحاد ، لأن كل واحد أمر غيره وثانيهما : هو أن الجواب لا يكون إلا من الأكابر والرؤساء ، فإذا قال أعيان بلد كلاما يقال اتفق أهل البلدة على هذا ولا يلتفت إلى عدم قول العبيد والأرذال ، فكان جواب قومه وهم الرؤساء أن قالوا لأتباعهم وأعوانهم اقتلوه ، لأن الجواب لا يباشره إلا الأكابر والقتل لا يباشره إلا الأتباع .

المسألة الثالثة : { أو } يذكر بين أمرين الثاني منهما ينفك عن الأول كما يقال زوج أو فرد ، ويقال هذا إنسان أو حيوان ، يعني إن لم يكن إنسانا فهو حيوان ، ولا يصح أن يقال هذا حيوان أو إنسان إذ يفهم منه أنه يقول هو حيوان فإن لم يكن حيوانا فهو إنسان وهو محال لكن التحريق مشتمل على القتل فقوله اقتلوه أو حرقوه كقول القائل حيوان أو إنسان ، الجواب عنه : من وجهين أحدهما : أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع ويكون { أو } مستعملا في موضع بل ، كما يقول القائل أعطيته دينارا أو دينارين ، وكما يقول القائل أعطه دينارا بل دينارين قال الله تعالى : { قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه } فكذلك ههنا اقتلوه أو زيدوا على القتل وحرقوه الجواب الثاني : هو أنا نسلم ما ذكرتم والأمر هنا كذلك ، لأن التحريق فعل مفض إلى القتل وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقى غيره في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حيا يصح أن يقال احترق فلان وأحرقه فلان وما مات ، فكذلك ههنا قالوا اقتلوه أو لا تعجلوا قتله وعذبوه بالنار ، وإن ترك مقالته فخلوا سبيله وإن أصر فخلوا في النار مقيله .

ثم قال تعالى : { فأنجاه الله من النار } اختلف العقلاء في كيفية الإنجاء ، بعضهم قال برد النار وهو الأصح الموافق لقوله تعالى : { يا نار كوني بردا } وبعضهم قال خلق في إبراهيم كيفية استبرد معها النار وقال بعضهم ترك إبراهيم على ما هو عليه والنار على ما كانت عليه ومنع أذى النار عنه ، والكل ممكن والله قادر عليه ، وأنكر بعض الأطباء الكل ، أما سلب الحرارة عن النار ، قالوا الحرارة في النار ذاتية كالزوجية في الأربعة لا يمكن أن تفارقها ، وأما خلق كيفية تستبرد النار فلأن المزاج الإنساني له طرفا تفريط وإفراط ، فلو خرج عنهما لا يبقى إنسانا أو لا يعيش . مثلا المزاج إن كان البارد فيه عشرة أجزاء يكون إنسانا فإن صار أحد عشر لا يكون إنسانا وإن صارت الأجزاء الباردة خمسة يبقى إنسانا فإذا صارت أربعة لا يبقى إنسانا لكن البرودة التي يستبرد معها النار مزاج السمندل فلو حصل في الإنسان لمات أو لكان ذلك فإن النفس تابعة للمزاج ، وأما الثالث فمحال أن تكون القطنة في النار والنار كما هي ، والقطنة كما هي ولا تحترق ، فنقول الآية رد عليهم والعقل موافق للنقل ، أما الأول فلوجهين أحدهما : أن الحرارة في النار تقبل الاشتداد والضعف ، فإن النار في الفحم إذا نفخ فيه يشتد حتى يذيب الحديد وإن لم ينفخ لا يشتد لكن الضعف هو عدم بعض من الحرارة التي كانت في النار ، فإذا أمكن عدم البعض جاز عدم بعض آخر من ذلك عليها إلى أن ينتهي إلى حد لا يؤذي الإنسان ، ولا كذلك الزوجية فإنها لا تشتد ولا تضعف والثاني : وهو أن في أصول الطب ذكر أن النار لها كيفية حارة كما أن الماء له كيفية باردة لكن رأينا أن الماء تزول عنه البرودة وهو ماء فكذلك النار تزول عنها الحرارة وتبقى نارا وهو نور غير محرق ، وأما الثاني فأيضا ممكن وقولهم مدفوع من وجهين أحدهما : منع أصلهم من كون النفس تابعة للمزاج بل الله قادر على أن يخلق النفس الإنسانية في المزاج الذي مثل مزاج الجمد وثانيهما : أن نقول على أصلكم لا يلزم المحال لأن الكيفية التي ذكرناها تكون في ظاهر كالأجزاء الرشية عليه ولا يتأدى إلى القلب والأعضاء الرئيسة ، ألا ترى أن الإنسان إذا مس الجمد زمانا ثم مس جمرة نار لا تؤثر النار في إحراق يده مثل ما تؤثر في إحراق يد من أخرج يده من جيبه ، ولهذا تحترق يده قبل يد هذا . فإذا جاز وجود كيفية في ظاهر جلد الإنسان تمنع تأثير النار فيه بالإحراق زمانا فيجوز أن تتجدد تلك الكيفية لحظة فلحظة حتى لا تحترق ، وأما الثالث : فمجرد استبعاد بيان عدم الاعتياد ونحن نسلم أن ذلك غير معتاد لأنه معجز والمعجز ينبغي أن يكون خارقا للعادة .

ثم قال تعالى : { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } يعني في إنجائه من النار لآيات ، وهنا مسائل :

المسألة الأولى : قال في إنجاء نوح وأصحاب السفينة { جعلناها آية } وقال ههنا { لآيات } بالجمع لأن الإنجاء بالسفينة شيء تتسع له العقول فلم يكن فيه من الآية إلا بسبب إعلام الله إياه بالاتخاذ وقت الحاجة ، فإنه لولاه لما اتخذه لعدم حصول علمه بما في الغيب ، وبسبب أن الله صان السفينة عن المهلكات كالرياح العاصفة ، وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه آيات .

المسألة الثانية : قال هناك { آية للعالمين } وقال ههنا { لقوم يؤمنون } خص الآيات بالمؤمنين لأن السفينة بقيت أعواما حتى مر عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد ، وأما تبريد النار ( فإنه ) لم يبق فلم يظهر لمن يعده إلا بطريق الإيمان به والتصديق ، وفيه لطيفة : وهي أن الله لما برد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لأبناء جنسه ، وقد قال الله للمؤمنين بأن لهم أسوة حسنة في إبراهيم ، فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله يبرد عليهم النار يوم القيامة ، فقال إن في ذلك التبريد لآيات لقوم يؤمنون .

المسألة الثالثة : قال هناك { جعلناها } وقال ههنا { جعلناه } لأن السفينة ما صارت آية في نفسها ولولا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح سفها ، فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية ، وأما تبريد النار فهو في نفسه آية إذا وجدت لا تحتاج إلى أمر آخر كخلق الطوفان حتى يصير آية .