مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ كَيۡفَ يُبۡدِئُ ٱللَّهُ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥٓۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ} (19)

ثم قال تعالى : { أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير }

لما بين الأصل الأول وهو التوحيد وأشار إلى الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله : { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر ، وقد ذكرنا مرارا أن الأصول الثلاثة لا يكاد ينفصل بعضها عن بعض في الذكر الإلهي ، فأينما يذكر الله تعالى منها اثنين يذكر الثالث . وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : الإنسان متى رأى بدء الخلق حتى يقال : { أو لم يروا كيف يبدئ الله } ؟ فنقول المراد العلم الواضح الذي كالرؤية والعاقل بعلم أن البدء من الله لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق وإلا لما كان الخلق الأول خلقا أول ، فهو من الله هذا إن قلنا إن المراد إثبات نفس الخلق ، وإن قلنا إن المراد بالبدء خلق الآدمي أولا وبالإعادة خلقه ثانيا ، فنقول العاقل لا يخفى عليه أن خالق نفسه ليس إلا قادر حكيم يصور الأولاد في الأرحام ، ويخلقه من نطفة في غاية الإتقان والإحكام ، فذلك الذي خلق أولا معلوم ظاهر فأطلق على ذلك العلم لفظ الرؤية ، وقال : { أو لم يروا } أي ألم يعلموا علما ظاهرا واضحا { كيف يبدئ الله الخلق } يخلقه من تراب يجمعه فكذلك يجمع أجزاءه من التراب ينفخ فيه روحه بل هو أسهل بالنسبة إليكم ، فإن من نحت حجارات ووضع شيئا بجنب شيء ففرقه أمر ما فإنه يقول وضعه شيئا بجنب شيء في هذه النوبة أسهل علي لأن الحجارات منحوتة ، ومعلوم أن آية واحدة منها تصلح لأن تكون بجنب الأخرى ، وعلى هذا المخرج خرج كلام الله في قوله { وهو أهون } وإليه الإشارة بقوله : { إن ذلك على الله يسير } .

المسألة الثانية : قال : { أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق } علق الرؤية بالكيفية لا بالخلق وما قال : أو لم يروا أن الله خلق ، أو بدأ الخلق ، والكيفية غير معلومة ؟ فنقول هذا القدر من الكيفية معلوم ، وهو أنه خلقه ولم يكن شيئا مذكورا ، وأنه خلقه من نطفة هي من غذاء هو من ماء وتراب وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة فإن الإعادة مثله .

المسألة الثالثة : لم قال : { ثم يعيده إن ذلك على الله يسير } فأبرز اسمه مرة أخرى ، ولم يقل إن ذلك عليه يسير كما قال ثم يعيده من غير إبراز ؟ نقول مع إقامة البرهان على أنه يسير فأكده بإظهار اسمه فإنه يوجب المعرفة أيضا بكون ذلك يسيرا ، فإن الإنسان إذا سمع لفظ الله وفهم معناه أنه الحي القادر ، بقدرة كاملة ، لا يعجزه شيء ، العالم بعلم محيط بذرات كل جسم ، نافذ الإرادة لا راد لما أراده ، يقطع بجواز الإعادة .